الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 106 ] المسألة الثانية

          إذا أنكر الشيخ رواية الفرع عنه ، فلا يخلو إما أن يكون إنكاره لذلك إنكار جحود وتكذيب للفرع ، أو إنكار نسيان وتوقف .

          فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر [1] لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه ، ولا بد من كذب أحدهما ، وهو موجب للقدح في الحديث ، غير أن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين ; لأن كل واحد منهما عدل ، وقد وقع الشك في كذبه .

          والأصل العدالة فلا تترك بالشك .

          وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الخبر .

          وأما إن كان الثاني ، فقد اختلفوا في قبول ذلك الخبر والعمل به ، فذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه ، وأكثر المتكلمين إلى جواز العمل ، خلافا للكرخي [2] وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ولأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى عنه ، ودليله الإجماع والمعقول .

          أما الإجماع ، فما روي أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى باليمين مع الشاهد [3] ثم نسبه سهيل ، فكان يقول : حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرويه هكذا .

          ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك ، فكان إجماعا منهم على جوازه .

          [ ص: 107 ] وأما المعقول فمن وجهين : الأول : أن الفرع عدل ، وهو جازم بروايته عن الأصل ، غير مكذب له وهما عدلان ، فوجب قبول الرواية والعمل بها .

          الثاني : أن نسيان الأصل الرواية لا تزيد على موته وجنونه ، ولو مات أو جن ، كانت رواية الفرع عنه مقبولة ، ويجب العمل بها إجماعا فكذلك إذا نسي .

          فإن قيل : أما الاستدلال بقضية ربيعة ، فلا حجة فيه ، لاحتمال أن سهيلا ذكر الرواية برواية ربيعة عنه ومع الذكر ، فالرواية تكون مقبولة .

          ثم هو معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ( أما تذكر يا أمير المؤمنين ، لما كنا في الإبل ، فأجنبت فتمعكت في التراب ، ثم سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنما يكفيك أن تضرب بيديك [4] فلم يقبل عمر من عمار ما رواه ، مع كونه عدلا عنده ، لما كان ناسيا له .

          وأما ما ذكرتموه من المعقول ، فالأصل وإن لم يكن مكذبا للفرع ، غير أن نسيانه لما نسب إليه يجب أن يكون مانعا من العمل به ، كما لو ادعى مدع أن الحاكم حكم له بشيء ، فقال الحاكم : لا أذكر ذلك ، فأقام المدعي شاهدين شهدا بذلك ، فإنه لا يقبل ، وكذلك إذا أنكر شاهد الأصل شهادة الفرع عليه على سبيل النسيان ، فإن الشهادة لا تقبل .

          الجواب عن قولهم : إن سهيلا ذكر الرواية ، قلنا لو كان كذلك ، لانطوى ذكر ربيعة ، وكان يروي عن شيخه ، كما لو نسي ، ثم تذكر بنفسه ، وأما رد عمر لرواية عمار عند نسيانه ، فليس نظيرا لما نحن فيه ، فإن عمارا لم يكن راويا عن عمر ، بل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحيث لم يعمل عمر بروايته فلعله كان شاكا في روايته أو كأن ذلك كان مذهبا له ، فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين على ما سيأتي تقريره .

          [ ص: 108 ] وأما الحاكم إذا نسي ما حكم به ، وشهد شاهدان بحكمه ، فقد قال مالك وأبو يوسف : يلزمه الحكم بشهادتهما ، وعندنا وإن لم يجب عليه ذلك ، فهو واجب على غيره من القضاة .

          وأما القياس على الشهادة ، فلا يصح لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية ، وقد اعتبر فيها من الشروط والقيود ما لم يعتبر في الرواية ، وذلك كاعتبار العدد والحرية والذكورة ، ولا يقبل فيها العنعنة ، ولا تصح الشهادة على الشهادة من وراء حجاب ، ولو قال : أعلم بدل قوله أشهد لا يصح ، ولا كذلك في الرواية فامتنع القياس .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية