الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 314 ] القسم الثاني

          في التخصيص بالأدلة المنفصلة

          وفيه أربع عشرة مسألة

          المسألة الأولى

          مذهب الجمهور من العلماء جواز تخصيص العموم بالدليل العقلي ، خلافا لطائفة شاذة من المتكلمين . ودليل ذلك أن قوله - تعالى - : ( الله خالق كل شيء ) وقوله ( وهو على كل شيء قدير ) متناول بعموم لفظه لغة كل شيء مع أن ذاته وصفاته أشياء حقيقة ، وليس خالقا لها ولا هي مقدورة له لاستحالة خلق القديم [1] الواجب لذاته واستحالة كونه مقدورا بضرورة العقل ، فقد خرجت ذاته وصفاته بدلالة ضرورة العقل عن عموم اللفظ ، وذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء ، ولا نعني بالتخصيص سوى ذلك ، فمن خالف في كون دليل العقل مخصصا مع ذلك فهو موافق على معنى التخصيص ومخالف في التسمية .

          وكذلك قوله - تعالى - : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ، فإن الصبي والمجنون من الناس حقيقة ، وهما غير مرادين من العموم بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف من لا يفهم ، ولا معنى للتخصيص سوى ذلك .

          فإن قيل : نحن لا ننكر أن ذات الباري - تعالى - وصفاته ، وأن الصبي والمجنون مما لم يرد باللفظ ، وإنما ننكر كون دليل العقل مخصصا لثلاثة أوجه :

          [ ص: 315 ] الأول : أن التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ عنه وهو غير متصور فيما ذكرتموه ، وبيانه أن دلالات الألفاظ على المعاني ليست لذواتها وإلا كانت دالة عليها قبل الموضعة ، وإنما دلالتها تابعة لمقصد المتكلم وإرادته ، ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم لا يريد بلفظه الدلالة على ما هو مخالف لصريح العقل ، فلا يكون لفظه دالا عليه لغة ومع عدم الدلالة اللغوية على الصورة المخرجة لا يكون تخصيصا .

          الثاني أن التخصيص بيان والمخصص مبين ، والبيان إنما يكون بعد سابقة الإشكال فيجب أن يكون البيان متأخرا عن المبين ، ودليل العقل سابق فلا يكون مبينا ولا مخصصا كالاستثناء المتقدم .

          الثالث : أن التخصيص بيان فلا يجوز بالعقل كالنسخ ، ثم وإن سلمنا دلالة اللفظ لغة على ما ذكرتموه وجواز كون المخصص متقدما ، ولكن ما المانع أن تكون صحة الاحتجاج بالدليل العقلي مشروطة بعدم معارضة عموم الكتاب له ؟ وبتقدير الاشتراط لذلك لا يكون حجة في التمسك به على الكتاب .

          وإن سلمنا صحة التخصيص في الآيتين المذكورتين أولا ، ولكن لا نسلم صحة تخصيص الصبي والمجنون عن عموم آية الحج ، فإن ما ذكرتموه مبني على امتناع خطابهما وكيف يمكن دعوى ذلك مع دخولهما تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات ، وإجماع الفقهاء على صحة صلاة الصبي واختلافهم في صحة إسلامه ، ولولا إمكان دخوله تحت الخطاب لما كان كذلك .

          والجواب عن الأول ، قولهم : إن دلالات الألفاظ ليست لذواتها مسلم ، وإنه لا بد [2] في دلالتها من قصد الواضع لها دالة على المعنى .

          قولهم : العاقل لا يقصد بلفظه [3] الدلالة على ما هو ممتنع بصريح العقل .

          قلنا : ذلك ممتنع بالنظر إلى ما وضع اللفظ عليه لغة بالنظر إلى إرادته من اللفظ ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

          وعند ذلك فلا منافاة بين كون اللفظ دالا على المعنى لغة وبين كونه غير مراد من اللفظ .

          [ ص: 316 ] قولهم : إن حق المخصص أن يكون متأخرا عما خصصه .

          قلنا : يجب أن يكون متأخرا بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى صفته ، وهو كونه مبينا ومخصصا ، الأول ممنوع والثاني مسلم .

          وذلك لأن دليل العقل وإن كان متقدما في ذاته على الخطاب المفروض ، غير أنه لا يوصف قبل ذلك بكونه مخصصا لما لم يوجد ، وإنما يصير مخصصا ومبينا بعد وجود الخطاب .

          وأما الاستثناء ، فإنما لم يجز تقديمه ؛ لأن المتكلم به لا يعد متكلما بكلام أهل اللغة كما إذا قال : إلا زيدا ، ثم قال بعد ذلك : قام القوم .

          وهذا بخلاف التخصيص ، فإنه إذا قال : ( الله خالق كل شيء ) وقام الدليل العقلي على أنه لم يرد بكلامه ذات [4] الباري - تعالى - فإنه لا يخرج بذلك الكلام عن كونه متكلما بكلام العرب .

          وأما امتناع النسخ بالعقل ، فإنما كان من جهة أن الناسخ معرف لبيان مدة الحكم المقصودة في نظر الشارع ، وذلك ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه بمجرد العقل بخلاف معرفة استحالة كون ذات الرب - تعالى - مخلوقة مقدورة .

          قولهم : ما المانع أن يكون التمسك بدليل العقل مشروطا بعدم معارضة الكتاب له ؟

          قلنا : إذا وقع التعارض بينهما ، وأحدهما مقتض للإثبات والآخر للنفي ، فلا سبيل إلى الجمع بين موجبيهما ؛ لما فيه من التناقض ، ولا إلى نفيهما لما فيه من وجود واسطة بين النفي والإثبات ، فلم يبق إلا العمل بأحدهما والعمل بعموم اللفظ مما يبطل دلالة صريح العقل بالكلية ، وهو محال ، والعمل بدليل العقل لا يبطل عموم الكتاب بالكلية ، بل غايته إخراج بعض ما تناوله اللفظ من جهة اللغة عن كونه مرادا للمتكلم ، وهو غير ممتنع فكان العمل بدليل العقل متعينا .

          [ ص: 317 ] قولهم : إن الصبي والمجنون داخلان تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات ليس كذلك .

          فإنا إن نظرنا إلى تعلق الحق بمالهما فهو ثابت بخطاب الوضع والأخبار ، وهو غير متعلق بالصبي والمجنون ، وإن نظرنا إلى وجوب الأداء الثابت بخطاب التكليف فهو متعلق بفعل وليهما لا بفعلهما .

          وأما صحة صلاة الصبي ، واختلاف الناس في صحة إسلامه فلا يدل ذلك على كونه داخلا تحت خطاب التكليف بالصلاة والإسلام .

          أما صحة الصلاة فمعناها انعقادها سببا لثوابه ، وسقوط الخطاب عنه بها إذا صلى في أول الوقت وبلغ في آخره ، لا بمعنى أنه امتثل أمر الشارع حتى يكون داخلا تحت خطاب التكليف من الشارع ، بل إن كان ولا بد فهو داخل تحت الولي لفهمه بخطابه دون خطاب الشرع .

          وعلى هذا يكون الجواب عن صحة إسلامه عند من يقول بذلك ، وبتقدير امتناع تخصيص الصبي بدليل العقل مع تسليم جواز التخصيص به في الجملة كما تقدم بيانه ، فغير مضر ولا قادح [5] ، فإنه ليس ذلك في آحاد الصور .

          وكما أن دليل العقل ( قد ) يكون مخصصا للعموم فكذلك دليل الحس ، وذلك كما تقدم في قوله - تعالى - : ( تدمر كل شيء ) مع خروج السماوات والأرض عن ذلك حسا ، وكذلك قوله - تعالى - : ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) ، وقد أتت على الأرض والجبال ولم تجعلها رميما بدلالة الحس ، فكان الحس هو الدال على أن ما خرج عن عموم اللفظ لم يكن مرادا للمتكلم ؛ فكان مخصصا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية