الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون غيرهما من الأدلة فهو النظر في النسخ ويشتمل على مقدمة ومسائل .

          أما المقدمة فتشتمل على أربعة فصول :

          [ ص: 102 ] الفصل الأول في تعريف النسخ والناسخ والمنسوخ

          أما النسخ : فهو في اللغة قد يطلق بمعنى الإزالة ، ومنه يقال نسخت الشمس الظل أي : أزالته ، ونسخت الريح أثر المشي أي : أزالته ، ونسخ الشيب الشباب إذا أزاله ، ومنه تناسخ القرون والأزمنة ، والإزالة هي الإعدام ، ولهذا يقال : زال عنه المرض والألم وزالت النعمة عن فلان ، ويراد به الانعدام في هذه الأشياء كلها .

          وقد يطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه .

          قال السجستاني من أهل اللغة : والنسخ أن تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى ، ومنه تناسخ المواريث بانتقالها من قوم إلى قوم ، وتناسخ الأنفس بانتقالها من بدن إلى غيره عند القائلين بذلك .

          ومنه نسخ الكتاب بما فيه من مشابهة النقل ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف أو من الصحف إلى غيرها .

          اختلف الأصوليون : فذهب القاضي أبو بكر ومن تابعه كالغزالي وغيره إلى أن اسم النسخ مشترك بين هذين المعنيين ، وذهب أبو الحسين البصري وغيره إلى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل ، وذهب القفال من أصحاب الشافعي إلى أنه حقيقة في النقل والتحويل .

          وقد احتج أبو الحسين البصري بأن إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم : " نسخت الكتاب " مجاز لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقة .

          وإذا كان اسم النسخ مجاز في النقل لزم أن يكون حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل فيما سواهما .

          وإذا بطل كونه حقيقة في أحدهما تعين أن يكون حقيقة في الآخر .

          وقد قرر ذلك بعضهم من وجه آخر فقال : إطلاق اسم النسخ بمعنى الإزالة والإعدام واقع كما سبق ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويلزم أن لا يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك عن اللفظ .

          [ ص: 103 ] ولقائل أن يقول على الوجه الأول : إن إطلاق اسم النسخ على الكتاب إما أن يكون حقيقة أو تجوزا ، فإن كان حقيقة فهو المطلوب ، وبطل ما ذكروه ، وإن كان مجازا ضرورة أن ما في الكتاب لم ينقل على الحقيقة فيمتنع أن يكون التجوز به مستعارا من الإزالة ، فإنه غير مزال ، ولا يشبه الإزالة فلا بد من استعارته من معنى آخر ، والإجماع منعقد على امتناع إطلاق اسم النسخ حقيقة في الإزالة والنقل فإذا تعذرت استعارته من الإزالة تعين أن يكون مستعارا من النقل .

          ووجه استعارته منه أن تحصيل مثل ما في أحد الكتابين في الآخر تجري مجرى نقله وتحويله إليه فكان منه بسبب من أسباب التجوز .

          وإذا كان مستعارا من النقل وجب أن يكون اسم النسخ حقيقة في النقل إذ المجاز لا يتجوز به في غيره بإجماع أهل اللغة .

          ثم وإن كان ذلك مجازا في نسخ الكتاب فما الاعتذار عن إطلاق اسم التناسخ في المواريث مع كونها منتقلة حقيقة ، وإطلاق اسم النسخ على تحويل النحل والعسل من خلية إلى أخرى ، فإن ما ذكروه في تقرير التجوز في نسخ الكتاب غير متصور هاهنا .

          وأما الوجه الثاني فمقابل بمثله ، وهو أن يقال : اسم النسخ قد أطلق بمعنى النقل على ما سبق ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويلزم من كونه حقيقة فيه أن لا يكون حقيقة في الإزالة دفعا للاشتراك عن اللفظ وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .

          فإن قيل : الترجيح لكونه حقيقة في الإزالة ، وذلك لأن الإزالة مطلق إعدام ، والنقل أخص من الإزالة لأنه يستلزم إعدام الصفة وحدوث أخرى ، والإعدام المستلزم حدوث شيء آخر أخص من الإعدام الذي لا يستلزم ذلك ، وإذا كانت الإزالة أعم فجعل النسخ حقيقة فيها أولى نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ .

          قلنا : لا نسلم أن الإزالة أعم من النقل والتحويل وإن كان يستلزم إعدام صفة وتجدد أخرى فكل إزالة هكذا لأن الإزالة على ما قيل هي الإعدام ، والإعدام يستلزم زوال الصفة ، وهي الوجود وتجدد أخرى ، وهي صفة العدم ، وهما صفتان متقابلتان مهما انتفت إحداهما تحققت الأخرى ، وإذا تساويا عموما وخصوصا [ ص: 104 ] فليس جعل اسم النسخ حقيقة في أحدهما أولى من الآخر .

          وإذا تعذر ترجيح أحد الأمرين مع صحة الإطلاق فيهما كان القول بالاشتراك أشبه ، اللهم إلا أن يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدل الصفة الوجودية بصفة وجودية فيكون النقل أخص .

          ومع هذا كله فالنزاع في هذا لفظي لا معنوي .

          وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فقد اختلف فيه ، فقال أبو الحسين البصري : هو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله تعالى أو عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا ، وهو فاسد من وجهين :

          الأول : هو أن إزالة المثل إما أن تكون قبل وجود ذلك المثل أو بعد عدمه ، أو في حالة وجوده :

          الأول : محال ، فإن ما لم يوجد لا يقال إنه أزيل ، والثاني أيضا محال ، فإن إزالة ما عدم بعد وجوده ممتنع ، والثالث : أيضا محال ، لأن الإزالة هي الإعدام ، وإعدام الشيء حال وجوده محال .

          [1] الوجه الثاني : أنه غير مانع إذ يدخل فيه إزالة مثل ما كان ثابتا من الأحكام العقلية قبل ورود الشرع بخطاب الشارع المتراخي على وجه لولا خطاب الشارع المغير لكان ذلك الحكم مستمرا وليس بنسخ في مصطلح المتشرعين إجماعا .

          ومنهم من قال : هو إزالة الحكم بعد استقراره ، ويبطل بالوجهين السابقين ، وبما لو زال الحكم بعد استقراره بمرض أو جنون أو موت فإنه داخل فيما قيل وليس بنسخ إجماعا .

          ومنهم من قال : هو نقل الحكم إلى خلافه ، ويبطل بما بطل به الحد الذي قبله ، وبما لو نقل الحكم إلى خلافه بالغاية كما في قوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فإن الحكم فيما قبل الغاية قد قلب إلى خلافه فيما بعد الغاية ، وليس بنسخ ، وبه يبطل قول من قال في حده إنه بيان مدة الحكم .

          [ ص: 105 ] وقال القاضي أبو بكر : إنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه ، وهو اختيار الغزالي أيضا .

          وقصد بالقيد الأول تعميم كل خطاب كان من باب المنظوم أو غيره ، والاحتراز عن الموت والمرض والجنون وجميع الأعذار الدالة على ارتفاع الأحكام الزائلة بها مع تراخيها ، ولولاها لكانت الأحكام الزائلة بها مستمرة .

          وبالقيد الثاني : وهو الخطاب المتقدم الاحتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الأحكام العقلية قبل ورود الشرع .

          وبالقيد الثالث : وهو على وجه لولاه لكان مستمرا الاحتراز عما إذا ورد الخطاب بحكم مؤقت ، ثم ورد الخطاب عند تصرم ذلك الوقت بحكم مناقض للأول ، كما لو ورد قوله عند غروب الشمس ( كلوا ) بعد قوله : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فإنه لا يكون نسخا لحكم الخطاب الأول حيث إنه لو قدرنا عدم الخطاب الثاني لم يكن حكم الخطاب الأول مستمرا بل منتهيا بالغروب .

          وبالقيد الرابع الاحتراز عن الخطاب المتصل ، كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية ، فإنه يكون بيانا لا نسخا .

          ويرد عليه إشكالات :

          الإشكال الأول : أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت هو الناسخ ، والنسخ هو نفس الارتفاع فلا يكون الناسخ هو النسخ .

          الثاني : وهو ما أورده أبو الحسين البصري أنه قال : إنه ليس بجامع ولا مانع .

          أما إنه ليس بجامع فلأنه يخرج منه النسخ بفعل الرسول مع أنه ليس بخطاب ، ويخرج منه نسخ ما ثبت بفعل الرسول ، وليس فيه ارتفاع حكم ثبت بالخطاب .

          وأما أنه ليس بمانع فلأنه لو اختلفت الأمة في الواقعة على قولين ، وأجمعوا بخطابهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين للمقلد ، ثم أجمعوا بأقوالهم على أحد القولين فإن حكم خطاب الإجماع الثاني دل على ارتفاع حكم خطاب الإجماع الأول وليس بنسخ إذ الإجماع لا ينسخ به .

          [ ص: 106 ] الثالث : هو أن تحديد النسخ بارتفاع الحكم الثابت تحديد له بما ليس بمتصور لوجوه يأتي ذكرها في مسألة إثبات النسخ .

          الرابع : أن فيه زيادة لا حاجة إليها ، وهي قوله ( متراخ عنه ) وقوله ( على وجه لولاه لكان مستمرا ثابتا ) فإن ذكر التراخي إنما وقع احترازا عن الخطاب المتصل كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية ، وفي الحد ما يدرأ النقض بذلك ، وهو ارتفاع الحكم والخطاب المتصل بالخطاب الأول في هذه الصور ليس رافعا لحكم الخطاب المتقدم في الذكر بل هو مبين أن الخطاب المتقدم لم يرد الحكم فيما استثني ، وفيما خرج عن الشرط والغاية ، وبالتقيد بالرفع يدرأ النقض بالخطاب الوارد بما يخالف حكم الخطاب المتقدم إذا كان حكمه مؤقتا من حيث إن الخطاب الثاني لا يدل على ارتفاع حكم الخطاب الأول لانتهائه بانتهاء وقته .

          والجواب عن الإشكال الأول لا نسلم أن النسخ هو ارتفاع الحكم ، بل النسخ نفس الرفع المستلزم للارتفاع ، والرفع هو الخطاب الدال على الارتفاع ، وذلك لأن النسخ يستدعي ناسخا ومنسوخا ، والناسخ هو الرافع أي الفاعل ، والمنسوخ هو المرفوع أي المفعول ، والرافع والمرفوع ، أي الفاعل والمفعول يستدعي رفعا وارتفاعا ، أي فعلا وانفعالا ، والرافع هو الله تعالى على الحقيقة .

          وإن سمي الخطاب ناسخا فإنما هو بطريق التجوز كما يأتي تحقيقه ، والمرفوع هو الحكم ، والرفع الذي هو الفعل صفة الرافع ، وذلك هو الخطاب ، والارتفاع الذي هو نفس الانفعال صفة المرفوع المفعول ، وذلك على نحو فسخ العقد فإن الفاسخ هو العاقد ، والمفسوخ هو العقد والفسخ صفة العاقد ، وهو قوله ( فسخت ) والانفساخ صفة العقد ، وهو انحلاله بعد انبرامه .

          وأما النسخ بفعل الرسول فلا نسلم أن فعل الرسول ناسخ حقيقة إذ ليس للرسول ولاية إثبات الأحكام الشرعية ورفعها من تلقاء نفسه ، وإنما هو رسول ومبلغ عن الله تعالى ما يشرعه من الأحكام ويرفعه ، ففعله إن كان ولا بد فإنما هو [ ص: 107 ] دليل على الخطاب الدال على ارتفاع الحكم لا أن نفس الفعل هو الدال على الارتفاع .

          وأما الإشكال بالإجماع ففيه جوابان :

          الأول : أنه مهما اجتمعت الأمة على تسويغ الخلاف في حكم مسألة معينة ، وكان إجماعهم قاطعا فلا نسلم تصور إجماعهم على مناقضة ما أجمعوا عليه أولا ليصح ما قيل .

          الثاني : أنه وإن صح ذلك فلا نسلم أن الحكم نفيا وإثباتا مستند إلى قول أهل الإجماع ، وإنما هو مستند إلى الدليل السمعي الموجب لإجماعهم على ذلك الحكم .

          وعلى هذا ، فيكون إجماعهم دليلا على وجود الخطاب الذي هو النسخ لا أن خطابهم نسخ .

          وما وعدوا به في الوجه الثالث فسيأتي الجواب عنه أيضا .

          وأما ما ذكروه من الزيادات فهي غير مخلة بصحة الحد ، وفائدتها الميز بين النسخ والصور المذكورة مبالغة في تحصيل الفائدة .

          ومع ذلك فالمختار في تحديده أن يقال : النسخ عبارة عن خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق .

          ولا يخفى ما فيه من الاحتراز من غير حاجة إلى التقييد بالتراخي ، ولا بقولنا ( لولاه لكان مستمرا ثابتا ) لما سبق تقريره .

          [2] [ ص: 108 ] وأما الناسخ فإنه قد يطلق على الله تعالى ، فيقال : نسخ فهو ناسخ ، ومنه قوله تعالى ( ما ننسخ من آية ) ، وقوله تعالى : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) ، وقد يطلق على الآية أنها ناسخة فيقال آية السيف نسخت كذا فهي ناسخة .

          وكذلك على طريق يعرف به نسخ الحكم من خبر الرسول وفعله وتقريره وإجماع الأمة .

          وعلى الحكم فيقال وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء فهو ناسخ ، وعلى المعتقد لنسخ الحكم ، فيقال : فلان ينسخ القرآن بالسنة ، أي يعتقد ذلك فهو ناسخ .

          غير أن الإجماع منعقد على أن إطلاق اسم ناسخ على الحكم وعلى المعتقد للنسخ مجاز ، وإنما الخلاف بيننا وبين المعتزلة في أنه حقيقة في الله تعالى أو في الطريق المعرف لارتفاع الحكم .

          فعندهم الناسخ في الحقيقة هو الطريق حتى قالوا في حده : إن الناسخ هو قول صادر عن الله تعالى أو عن رسوله أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله تعالى أو بنص أو فعل منقول عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا .

          وأما نحن : فمعتقدنا أن الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى ، وأن خطابه الدال على ارتفاع الحكم هو النسخ وإن سمي ناسخا فمجاز .

          وحاصل النزاع في ذلك آيل إلى اللفظ .

          وأما المنسوخ فهو الحكم المرتفع كالمرتفع من وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحكم الوصية للوالدين والأقربين ، وحكم التربص حولا كاملا عن المتوفى عنها زوجها ، إلى غير ذلك .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية