الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 156 ] المسألة الثانية

          إذا ثبت أن مذهب الصحابي ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز لغيره تقليده ؟

          أما العامي فيجوز له ذلك من غير خلاف ، وأما المجتهد من التابعين ومن بعدهم ، فيجوز له تقليده إن جوزنا تقليد العالم للعالم ، وإن لم نجوز ذلك فقد اختلف قول الشافعي في جواز تقليد العالم من التابعين للعالم من الصحابة ، فمنع من ذلك في الجديد وجوزه في القديم ، غير أنه اشترط انتشار مذهبه تارة ولم يشترطه تارة .

          والمختار امتناع ذلك مطلقا لما يأتي في قاعدة الاجتهاد إن شاء الله تعالى .

          [1] النوع الثالث : الاستحسان

          وقد اختلف فيه فقال به أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ، وأنكره الباقون حتى نقل عن الشافعي أنه قال : من استحسن فقد شرع .

          ولا بد قبل النظر في الحجاج من تلخيص محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول :

          الخلاف ليس في نفس إطلاق لفظ الاستحسان جوازا وامتناعا لوروده في الكتاب والسنة وإطلاق أهل اللغة .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) ، وقوله تعالى : ( وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) .

          وأما السنة فقوله عليه السلام : " ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن " .

          [2] [ ص: 157 ] وأما الإطلاق فما نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل ، ولا تقدير مدة السكون فيها ، وتقدير أجرته ، واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه ، وقد نقل عن الشافعي أنه قال : أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما ، وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام ، وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة . وقال في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت : القياس أن تقطع يمناه ، والاستحسان أن لا تقطع .

          فلم يبق الخلاف إلا في معنى الاستحسان وحقيقته ، ولا شك أن الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحا عند غيره ، وهو في اللغة استفعال من الحسن ، وليس ذلك هو محز الخلاف ؛ لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع الله تعالى بشهواته وهواه ، من غير دليل شرعي ، وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي وإنما محز الخلاف فيما وراء ذلك .

          وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في تعريفه بحده فمنهم من قال : إنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه ، والوجه في الكلام عليه أنه إن تردد فيه بين أن يكون دليلا محققا ووهما فاسدا فلا خلاف في امتناع التمسك به ، وإن تحقق أنه دليل من الأدلة الشرعية فلا نزاع في جواز التمسك به أيضا ، وإن كان ذلك في غاية البعد ، وإنما النزاع في تخصيصه باسم الاستحسان عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ، ولا حاصل للنزاع اللفظي .

          ومنهم من قال : إنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ، ويخرج منه الاستحسان عندهم بالعدول عن موجب القياس إلى النص من الكتاب أو السنة أو العادة .

          [ ص: 158 ] أما الكتاب : فكما في قول القائل : مالي صدقة ، فإن القياس لزوم التصدق بكل مال له ، وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة كما في قوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة ) ولم يرد به سوى مال الزكاة .

          وأما السنة : فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار رمضان ، والعدول عن حكم القياس إلى قوله عليه السلام لمن أكل ناسيا : ( الله أطعمك وسقاك ) .

          وأما العادة : فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء المستعمل في الحمام ، وتقدير السكنى فيها ، ومقدار الأجرة ، كما ذكرناه فيما تقدم للعادة في ترك المضايقة في ذلك .

          ومنهم من قال : إنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه .

          وحاصله يرجع إلى تخصيص العلة ، وقد عرف ما فيه .

          [3] وقال الكرخي : الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى ، ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى مقابله للدليل المخصص ، والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى مقابله للدليل الناسخ وليس باستحسان عندهم .

          وقال أبو الحسين البصري : هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه ، وهو في حكم الطارئ على الأول .

          وقصد بقوله : غير شامل شمول الألفاظ في الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس لكونه لفظا شاملا .

          وبقوله : ( وهو في حكم الطارئ ) الاحتراز عن قولهم : تركنا الاستحسان بالقياس ، فإنه ليس استحسانا من حيث إن القياس الذي ترك له الاستحسان ليس في حكم الطارئ بل هو الأصل ، وذلك كما لو قرأ آية سجدة في آخر سورة ، فالاستحسان أن يسجد لها ولا يجتزئ بالركوع ، ومقتضى القياس أن يجتزئ بالركوع فإنهم قالوا بالعدول ها هنا عن الاستحسان إلى القياس .

          وهذا الحد وإن كان أقرب مما تقدم لكونه جامعا مانعا غير أن حاصله يرجع إلى تفسير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابله بدليل طارئ [ ص: 159 ] عليه أقوى منه من نص أو إجماع أو غيره ، ولا نزاع في صحة الاحتجاج به ، وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية ، ولا حاصل له ، وإنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة وهو أن يقال : إن أردتم بالعادة ما اتفق عليه الأئمة من أهل الحل والعقد فهو حق .

          وحاصله راجع إلى الاستدلال بالإجماع ، وإن أريد به عادة من لا يحتج بعادته كالعادات المستحدثة للعامة فيما بينهم فذلك مما يمتنع ترك الدليل الشرعي به .

          وإذا تحقق المطلوب في هذه المسألة فلا بد من الإشارة إلى شبه تمسك بها القائلون بالاستحسان في بيان كون المفهوم منه حجة مع قطع النظر عن تفصيل القول فيه ، والإشارة إلى جهة ضعفها ، وقد تمسكوا في ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) ، وقوله تعالى : ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) .

          ووجه الاحتجاج بالآية الأولى : ورودها في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول ، وبالآية الثانية من جهة أنه أمر باتباع أحسن ما أنزل ، ولولا أنه حجة لما كان كذلك .

          وأما السنة فقوله عليه السلام : ( ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن ) [4] ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسنا .

          وأما إجماع الأمة فما ذكر من استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة .

          والجواب عن الآية الأولى : أنه لا دلالة له فيها على وجوب اتباع أحسن القول ، وهو محل النزاع .

          وعن الآية الثانية : أنه لا دلالة أيضا فيها على أن ما صاروا إليه دليل منزل ، فضلا عن كونه أحسن ما أنزل .

          وعن الخبر كذلك أيضا ، فإن قوله : " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " إشارة إلى إجماع المسلمين ، والإجماع حجة ، ولا يكون إلا عن دليل ، وليس فيه [ ص: 160 ] دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسنا أنه حسن عند الله ، وإلا كان ما رآه آحاد العوام من المسلمين أن يكون حسنا عند الله ، وهو ممتنع .

          وعن الإجماع على استحسان ما ذكروه ، لا نسلم أن استحسانهم لذلك هو الدليل على صحته ، بل الدليل ما دل على استحسانهم له ، وهو جريان ذلك في زمن النبي عليه الصلاة السلام مع علمه به وتقريره لهم عليه أو غير ذلك .

          النوع الرابع : المصالح المرسلة

          [5] وقد بينا في القياس حقيقة المصلحة وأقسامها في ذاتها ، وانقسامها باعتبار شهادة الشارع لها إلى : معتبرة ، وملغاة ، وإلى ما لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا إلغاء ، وبينا ما يتعلق بالقسمين الأولين ، ولم يبق غير القسم الثالث ، وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل ، وهذا أوان النظر فيه .

          وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به ، وهو الحق ، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه ، ولعل النقل إن صح عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة ، بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعا ، لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ، ولا وقوعه قطعي .

          وذلك كما لو [6] تترس الكفار بجماعة من المسلمين ، بحيث لو كففنا عنهم لغلب الكفار على دار الإسلام واستأصلوا شأفة المسلمين ، ولو رمينا الترس وقتلناهم اندفعت المفسدة عن كافة المسلمين قطعا غير أنه يلزم منه قتل مسلم لا جريمة له ، فهذا القتل وإن كان مناسبا في هذه الصورة ، والمصلحة ضرورية كلية قطعية ، غير أنه لم يظهر من الشارع اعتبارها ولا إلغاؤها في صورة .

          [ ص: 161 ] وإذا عرف ذلك فالمصالح على ما بينا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها ، وإلى ما عهد منه إلغاؤها . وهذا القسم متردد بين ذينك القسمين ، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر ، فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار ، يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغى .

          فإن قيل : ما ذكرتموه فرع تصور وجود المناسب المرسل ، وهو غير متصور .

          وذلك لأنا أجمعنا على أن ثم مصالح معتبرة في نظر الشارع في بعض الأحكام ، وأي وصف قدر من الأوصاف المصلحية فهو من جنس ما اعتبر ، وكان من قبيل الملائم الذي أثر جنسه في جنس الحكم ، وقد قلتم به .

          قلنا : وكما أنه من جنس المصالح المعتبرة فهو من جنس المصالح الملغاة ، فإن كان يلزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا ، فيلزم أن يكون ملغى ضرورة كونه من جنس المصالح الملغاة ، وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبرا ملغى بالنظر إلى حكم واحد ، وهو محال .

          وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبرا بالجنس القريب منه ; لنأمن إلغاءه .

          والكلام فيما إذا لم يكن كذلك .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية