المسألة الثانية
اتفقوا على جواز ، واختلفوا في جواز الاجتهاد بعد النبي عليه السلام . الاجتهاد لمن عاصره
فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلا ، ومنع منه الأقلون .
ثم اختلف القائلون بالجواز في ثلاثة أمور :
الأول : منهم من جوز ذلك للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره ، ومنهم من جوزه مطلقا .
الثاني : أن منهم من قال بجواز ذلك مطلقا إذا لم يوجد من ذلك منع ، ومنهم من قال : لا يكتفى في ذلك بمجرد عدم المنع بل لا بد من الإذن في ذلك ، ومنهم من قال : السكوت عنه مع العلم بوقوعه كاف .
الثالث : اختلفوا في وقوع التعبد به سمعا ، فمنهم من قال : إنه كان متعبدا به ، ومنهم من توقف في ذلك مطلقا كالجبائي ، ومنهم من توقف في حق من حضر دون من غاب كالقاضي عبد الجبار .
والمختار جواز ذلك مطلقا ، وأن ذلك مما وقع مع حضوره وغيبته ظنا لا قطعا .
[ ص: 176 ] أما الجواز العقلي فيدل عليه ما دللنا به على جواز ذلك في حق النبي عليه السلام في المسألة المتقدمة .
وأما بيان الوقوع : أما في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر رضي الله عنه في حق أبي قتادة حيث قتل رجلا من المشركين فأخذ سلبه غيره : لا نقصد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه ، فقال النبي عليه السلام : " صدق وصدق في فتواه " [1] ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد .
وأيضا ما روي عن النبي عليه السلام أنه حكم في سعد بن معاذ بني قريظة ، فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم بالرأي ، فقال عليه السلام : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " .
[2] وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه عمرو بن العاص أن يحكما بين خصمين وقال لهما : " إن أصبتما فلكما عشر حسنات ، وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة وعقبة بن عامر الجهني " . أمر
[3] وأما في غيبته فيدل عليه قصة معاذ وعتاب بن أسيد حين بعثهما قاضيين إلى اليمن .
[ ص: 177 ] فإن قيل : الموجود في عصر النبي عليه السلام قادر على معرفة الحكم بالنص وبالرسول عليه السلام ، والقادر على التوصل إلى الحكم على وجه يؤمن فيه الخطأ إذا عدل إلى الاجتهاد الذي لا يؤمن فيه الخطأ كان قبيحا ، والقبيح لا يكون جائزا .
وأيضا فإن من باب التعاطي والافتيات على النبي عليه السلام ، وهو قبيح فلا يكون جائزا ، وهذا بخلاف ما بعد النبي عليه السلام . الحكم بالرأي في حضرة النبي عليه السلام
وأيضا فإن الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي عليه السلام ، ولو كان الاجتهاد جائزا لهم لم يرجعوا إليه .
وأما ما ذكرتموه من أدلة الوقوع ، فهي أخبار آحاد لا تقوم الحجة بها في المسائل القطعية .
وبتقدير أن تكون حجة ، فلعلها خاصة بمن وردت في حقه غير عامة .
والجواب عن السؤال الأول ما مر في جواز اجتهاد النبي عليه السلام .
وعن الثاني : أن ذلك إذا كان بأمر رسول الله وإذنه ، فيكون ذلك من باب امتثال أمره لا من باب التعاطي والافتيات عليه .
وعن قولهم : " إن الصحابة كانوا يرجعون في أحكام الوقائع إلى النبي عليه السلام " يمكن أن يكون ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ، وإن ظهر غير أن القادر على التوصل إلى مقصوده بأحد طريقين لا يمتنع عليه العدول عن أحدهما إلى الآخر .
ولا يخفى أنه إذا كان الاجتهاد طريقا يتوصل به إلى الحكم فالرجوع إلى النبي عليه السلام أيضا طريق آخر .
وما ذكروه من أن الأخبار المذكورة في ذلك أخبار آحاد ، فهو كذلك غير أن المدعى إنما هو حصول الظن بذلك دون القطع .
قولهم : يحتمل أن يكون ذلك خاصا بمن وردت تلك الأخبار في حقه .
قلنا : المقصود من الأخبار المذكورة إنما هو الدلالة على وقوع الاجتهاد في زمن النبي عليه السلام ممن عاصره لا بيان وقوع الاجتهاد من كل من عاصره .