ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل
فازداد منها تعجبا ، وقال : أرأيت لو انصرف بنوك وهم جياع ، ولا شيء عندك ، ما كنت تصنعين بهم ؟ قالت : يا هذا ، لقد عظمت هذه الخبزة عندك وفي عينيك حتى أن صرت لتكثر فيها مقالك ، وتشغل بذكرها بالك ، اله عن هذا وما أشبه ؛ فإنه يفسد النفس ، ويؤثر في الحس فازداد تعجبا ، ثم قال لغلامه : انطلق إلى فتيانها ، فإذا أقبل بنوها فجئني بهم فقالت العجوز : أما إنهم لا يأتونك إلا بشريطة قال : وما هي ؟ قالت : لا تذكر لهم ما ذكرته لي ؛ فإنهم شباب أحداث ، تحرجهم الكلمة ، ولا آمن بوادرهم إليك ، وأنت في هذا البيت الرفيع ، والشرف العالي ، فإذا نحن من أشر العرب جوارا فازداد عبيد الله تعجبا ، وقال لها : سأفعل ما أمرت به فقالت العجوز للغلام : انطلق ، فاقعد بحذاء الخباء الذي رأيتني في ظله ، فإذا أقبل ثلاثة : أحدهم دائم الطرف نحو الأرض ، قليل الحركة ، كثير السكون ، فذاك الذي إذا خاصم أفصح ، وإذا طلب أنجح ، والآخر دائم النظر ، كثير الحذر ، له أبهة قد كملت من حسبه ، وأثرت في نسبه ، فذاك الذي إذا قال فعل ، وإذا ظلم قتل ، والآخر كأنه شعلة نار ، وكأنه يطلب الخلق بثأر ، فذاك الموت المائت ، هو والله والموت قسيمان ، فاقرأ عليهم سلامي ، وقل لهم : تقول لكم والدتكم : لا يحدثن أحد منكم أمرا حتى تأتوها [ ص: 203 ] فانطلق الغلام ، فلما جاء الفتية آخرهم ، فما قعد قائمهم ، ولا شد جمعهم حتى تقدموا سراعا ، فلما دنوا من عبيد الله ورأوا أمهم ، سلموا ، فأدناهم عبيد الله ، من مجلسه ، وقال : إني لم أبعث إليكم ، ولا إلى أمكم لما تكرهون قالوا : فما بعد هذا ؟ قال : أحب أن أصلح من أمركم ، وألم من شعثكم قالوا : إن هذا قل ما يكون إلا عن سؤال ، أو مكافأة لفعل قديم قال : ما هو لشيء من ذلك ، ولكن جاورتكم في هذه الليلة ، وخطر ببالي أن أضع بعض مالي فيما يحب الله عز وجل قالوا : يا هذا ، إن الذي يحب الله لا يجب لنا ، إذ كنا في خفض من العيش ، وكفاف من الرزق ، فإن كنت هذا أردت فوجهه نحو من يستحقه ، وإن كنت أردت النوال مبتدئا لم يتقدمه سؤال ، فمعروفك مشكور ، وبرك مقبول فأمر لهم عبيد الله بعشرة آلاف درهم ، وعشرين ناقة ، وحول أثقاله إلى البغال والدواب ، وقال : ما ظننت أن في العرب والعجم من يشبه هذه العجوز ، وهؤلاء الفتيان فقالت العجوز لفتيانها : ليقل كل واحد منكم بيتا من الشعر في هذا الشريف ، ولعلي أن أعينكم ، فقال الكبير : عبيد الله
شهدت عليك بطيب الكلام وطيب الفعال وطيب الخبر
وقال الأوسط :
تبرعت بالجود قبل السؤال فعال كريم عظيم الخطر
وقال الأصغر :
وحق لمن كان ذا فعله بأن يسترق رقاب البشر
وقالت العجوز :
فعمرك الله من ماجد ووقيت شر الردى فالحذر
" .
615 - قال وحدثنا أيضا الخرائطي : أبو الفضل العباس بن الفضل الربعي ، عن بعض مشايخه قال : نزل يعني فذكر مثله سواء . عبيد الله