ذكر تلبيسه على اليهود
قال المصنف: قد لبس عليهم في أشياء كثيرة نذكر منها نبذة ليستدل بها على تلك، فمن ذلك ولو كان تشبيههم حقا لجاز عليه ما يجوز عليهم، وحكى تشبيههم الخالق بالخلق، أبو عبد الله بن حامد من أصحابنا أن اليهود تزعم أن الإله المعبود رجل من نور على كرسي من نور على رأسه تاج من نور، وله أعضاء كما للآدميين، ومن ذلك قولهم: عزير بن الله، ولو فهموا أن حقيقة البنوة لا تكون إلا بالتبعيض، والخالق ليس بذي أبعاض; لأنه ليس بمؤلف لم يثبتوا بنوة، ثم إن الولد في معنى الوالد، وقد كان عزير لا يقوم إلا بالطعام، والإله من قامت به الأشياء لا من قام بها، والذي دعاهم إلى هذا مع جهلهم بالحقائق أنهم رأوه قد عاد بعد الموت، وقرأ التوراة من حفظه، فتكلموا بذلك من ظنونهم الفاسدة، ويدل على أن القوم كانوا في بعد من الذهن أنهم لما رأوا أثر القدرة في فرق البحر لهم، ثم مروا على أصنام طلبوا مثلها، فقالوا: (اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة)، فلما زجرهم موسى عن ذلك بقي في نفوسهم، فظهر المستور بعبادتهم العجل، والذي حملهم على هذا شيئان: أحدهما: جهلهم بالخالق، والثاني: أنهم أرادوا ما يسكن إليه الحس لغلبة الحس عليهم، وبعد العقل عنهم، ولولا جهلهم بالمعبود ما اجترؤوا عليه بالكلمات القبيحة; [ ص: 70 ] كقولهم: ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) وقولهم: ( يد الله مغلولة ) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقد علموا أن من دين ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا: لا يجوز نسخ الشرائع، آدم جواز نكاح الأخوات، وذوات المحارم، والعمل في يوم السبت، ثم نسخ ذلك بشريعة موسى. قالوا: إذا أمر الله عز وجل بشيء كان حكمه، فلا يجوز تغييره. قلت: قد يكون التغيير في بعض الأوقات حكمة، فإن تقلب الآدمي من صحة إلى مرض، ومن مرض إلى موت كله حكمة، وقد حظر عليكم العمل يوم السبت، وأطلق لكم العمل يوم الأحد، وهذا من جنس ما أنكرتم، وقد أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، ثم نهاه عن ذلك.
ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) وهي الأيام التي عبد فيها العجل، وفضائحهم كثيرة، وقد أمروا أن يؤمنوا به، ورضوا بعذاب الآخرة، فعلماؤهم عاندوا، وجهالهم قلدوا، ثم العجب أنهم غيروا ما أمروا به، وحرفوا، ودانوا بما يريدون، فأين العبودية ممن يترك الأمر، ويعمل بالهوى؟ ثم إنهم كانوا يخالفون ثم حملهم إبليس على العناد المحض، فجحدوا ما كان في كتابهم من صفة نبينا صلى الله عليه وسلم، وغيروا ذلك، موسى ويعيبونه حتى قالوا: إنه آدر، واتهموه بقتل هارون، واتهموا داود بزوجة أوريا.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار ، نا الحسن بن علي الجوهري ، نا أبو عمر بن حياة ، نا ابن معروف ، نا ، ثنا الحارث بن أبي أسامة ، نا محمد بن سعد ، عن علي بن محمد علي بن مجاهد ، عن ، عن محمد بن إسحاق سالم مولى عبد الله بن مطيع ، عن رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس، فقال: "اخرجوا إلي أعلمكم". فخرج إليه أبي هريرة عبد الله بن صوريا ، فخلا به، فناشده الله بدينه، وبما أنعم الله عليهم، وأطعمهم من المن والسلوى، وظللهم به من الغمام; أتعلمون أني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك، ونعتك لمبين في التوراة، ولكنهم حسدوك. قال: "فما يمنعك أنت". قال: أكره خلاف قومي، وعسى [ ص: 71 ] أن يتبعوك ويسلموا، فأسلم.
أخبرنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ، قال: أخبرنا ، قال: أخبرنا الحسن بن علي أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال: ثنا قال: حدثني عبد الله بن أحمد أبي ، قال: ثنا يعقوب ، قال: ثنا أبي ، عن قال: حدثني ابن إسحاق صالح بن عبد الرحمن بن عوف ، عن ، عن محمود بن لبيد سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان لنا جار من اليهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل. قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنا على بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي، فذكر البعث، والقيامة، والحساب، والميزان، والجنة، والنار، فقال: ذلك لقوم أهل شرك، وأصحاب أوثان لا يرون بعثا كائنا بعد الموت، فقال له: ويحك يا فلان، أترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة، ونار يحزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به يود أحدهم أن له لحظة من تلك النار بأعظم تنور في الدار يحمونه، ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غدا. قال له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة، واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: ويلك يا فلان، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به.