168 - فصل
[ هل تجوز الهدنة المطلقة دون تحديد مدة ] .
إذا عرف هذا فهل يجوز لولي الأمر أن يعقد
nindex.php?page=treesubj&link=8955الهدنة مع الكفار عقدا مطلقا لا يقدره بمدة ، بل يقول : " نكون على العهد ما شئنا " ، ومن أراد فسخ
[ ص: 875 ] العقد فله ذلك إذا أعلم الآخر ، ولم يغدر به ، " أو يقول : " نعاهدكم ما شئنا ، ونقركم ما شئنا ؟ "
فهذا فيه للعلماء قولان في مذهب
أحمد وغيره :
أحدهما : لا يجوز ، قال به
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في موضع ، ووافقه طائفة من أصحاب
أحمد كالقاضي في " المجرد " ، والشيخ في " المغني " ، ولم يذكروا غيره .
والثاني : يجوز ذلك ، وهو الذي نص عليه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في " المختصر " ، وقد ذكر الوجهين في مذهب
أحمد طائفة آخرهم
ابن حمدان .
والمذكور عن
أبي حنيفة أنها لا تكون لازمة بل جائزة ، فإنه جوز للإمام فسخها متى شاء . وهذا القول في الطرف المقابل لقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي الأول .
والقول الثالث : وسط بين هذين القولين .
[ ص: 876 ] وأجاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
لأهل خيبر : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350442نقركم ما أقركم الله " بأن المراد : نقركم ما أذن الله في إقراركم بحكم الشرع .
قال : وهذا لا يعلم إلا بالوحي ، فليس هذا لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأصحاب هذا القول كأنهم ظنوا أنها إذا كانت مطلقة تكون لازمة مؤبدة كالذمة ، فلا تجوز بالاتفاق ولأجل أن تكون الهدنة لازمة مؤبدة فلا بد من توفيتها ، وذلك أن الله - عز وجل - أمر بالوفاء ، ونهى عن الغدر ، والوفاء لا يكون إلا إذا كان العقد لازما .
والقول الثاني - وهو الصواب - أنه يجوز عقدها مطلقة ومؤقتة ، فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة ، ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة ، والوكالة ، والمضاربة ونحوها جاز ذلك ، لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء .
ويجوز عقدها مطلقة ، وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد ، بل متى شاء نقضها ، وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة ، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا .
وللعاقد أن يعقد العقد لازما من الطرفين ، وله أن يعقده جائزا يمكن فسخه إذا لم يمنع من ذلك مانع شرعي ، وليس هنا مانع ، بل هذا قد يكون هو المصلحة ، فإنه إذا عقد عقدا إلى مدة طويلة فقد تكون مصلحة المسلمين
[ ص: 877 ] في محاربتهم قبل تلك المدة ، فكيف إذا كان ذلك قد دل عليه الكتاب والسنة ؟
وعامة عهود النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة ، جائزة غير لازمة ، منها عهده مع أهل
خيبر ، مع أن
خيبر فتحت ، وصارت للمسلمين ، لكن سكانها كانوا هم
اليهود ، ولم يكن عندهم مسلم ، ولم تكن بعد نزلت آية الجزية ، إنما نزلت في " براءة " عام
تبوك سنة تسع من الهجرة ،
وخيبر فتحت قبل
مكة بعد
الحديبية سنة سبع . ومع هذا ،
فاليهود كانوا تحت حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن العقار ملك المسلمين دونهم .
وقد ثبت في " الصحيحين " أنه قال لهم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350443نقركم ما شئنا " ، أو "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350444ما أقركم الله " .
وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350444ما أقركم الله " يفسره اللفظ الآخر ، وأن المراد : أنا متى شئنا أخرجناكم منها .
ولهذا أمر عند موته بإخراج
اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، وأنفذ ذلك
عمر - رضي الله عنه - في خلافته .
وقد ذكر طائفة منهم
nindex.php?page=showalam&ids=16935محمد بن جرير : أن كل ذمة عقدت للكفار
[ ص: 878 ] في دار الإسلام فهي على هذا الحكم ، يقرهم المسلمون ما احتاجوا إليهم ، فإذا استغنوا عنهم أخرجوهم من ديار المسلمين .
وهذا قول قوي ، له حظ من الفقه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350442نقركم ما أقركم الله " أراد به ما شاء الله إقراركم ، وقدر ذلك وقضى به ، أي : فإذا قدر إخراجكم ، بأن يريد إخراجكم فنخرجكم ، لم نكن ظالمين لكم ، كما يقول القائل : أنا أقيم في هذا المكان ما شاء الله وما أقامني . ولم يرد بقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350444ما أقركم الله " : إنا نقركم ما أباح الله بوحي ، وإن كان أراد ذلك فهذا معنى صحيح ، وهذا لا يمكن من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه لم يرد إلا الإقرار المقضي كما قال : " ما شئنا " .
وأيضا فقد ثبت بالقرآن ، والتواتر أن
nindex.php?page=treesubj&link=8961النبي - صلى الله عليه وسلم - نبذ إلى المشركين عهودهم بعد فتح مكة لما حج
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عام تسع ، فنبذ إلى المشركين عهودهم ذلك العام ، ولذلك أردف
أبا بكر بعلي - رضي الله عنهما - لأن عادتهم كانت أنه لا يعقد العقود ويحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته ، وقد أنزلت في ذلك سورة براءة ، فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=2فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ) الآيات ، فهو سبحانه أنزل البراءة إلى المشركين ، وجعل لهم سياحة أربعة أشهر : وهي الحرم المذكورة في
[ ص: 879 ] قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، وليست هذه الحرم هي الحرم المذكورة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) .
قال شيخنا : ومن جعل هذه هي تلك فقوله خطأ ، وذلك أن هذه قد بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح بأنها "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350445ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " وهذه ليست متوالية فلا يقال فيها : " فإذا انسلخت " فإن الثلاثة إذا انسلخت بقي رجب ، فإذا انسلخ رجب بقي ثلاثة أشهر ، ثم يأتي الحرم ، فليس جعل هذا انسلاخا بأولى من ذلك ، ولا يقال لمثل هذا : ( انسلخ ) إنما يستعمل هذا في الزمن المتصل .
ثم إن جمهور الفقهاء على أن القتال في تلك الحرم مباح ، فكيف يقول : فإذا انسلخ ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب فاقتلوا المشركين ، وهو قد أباح فيها قتال المشركين ؟
وأيضا فهذه الآية نزلت عام حجة
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق - رضي الله عنه - ، وكان حجه في ذي القعدة على العادة لأجل النسيء الذي كانوا ينسئون فيها
[ ص: 880 ] لأشهر ، وإنما استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض لما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع في العام المقبل سنة عشر ، والله تعالى سير المشركين أربعة أشهر يأمنون فيها ، وتلك لا تنقضي إلا عاشر ربيع الأول .
وقد اختلف المفسرون في هذه
nindex.php?page=treesubj&link=32204الأشهر الحرم - وهي أشهر التسيير - على أقوال :
أحدها : أنها هي الحرم المذكورة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36منها أربعة حرم ) .
وهذا يحكى عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ولا يصح عنه .
[ ص: 881 ] الثاني : أن أولها يوم الحج الأكبر كما نقل عن
مجاهد ،
والسدي وغيرهما ، وهذا هو الصحيح .
[ ص: 882 ] وعلى هذا فيكون آخرها العاشر من شهر ربيع الآخر .
القول الثالث : أن آخرها عاشر ربيع الأول .
قال شيخنا : ولا منافاة بين القولين ، فإنه باتفاق الناس أن
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق - رضي الله عنه - نادى بذلك في الموسم في المشركين : إن لكم أربعة أشهر تسيحون فيها ، ويوم النحر كان ذلك العام بالاتفاق عاشر ذي القعدة ، فانقضاء الأربعة عاشر ربيع الأول ، فإنهم كانوا ينسئون الأشهر ، فذو القعدة يجعلونه موضع ذي الحجة ، وصفر موضع المحرم ، وربيع الأول موضع صفر ، وربيع الآخر موضع الأول ، فالذي كانوا يجعلونه ذا الحجة هو ذو القعدة ، والذي جعلوه ربيعا الآخر هو ربيع الأول فمن المفسرين من تكلم بعبارتهم إذ ذاك ، ومنهم من غير العبارة إلى ما استقر الأمر عليه ، والمقصود : أن الله سبحانه قسم المشركين في هذه السورة إلى ثلاثة أقسام :
[ الأول : ] أهل
nindex.php?page=treesubj&link=8983عهد مؤقت ، لهم مدة وهم مقيمون على الوفاء بعهدهم لم ينقصوا المسلمين شيئا مما شرطوا لهم ، ولم يظاهروا عليهم أحدا ، فأمرهم بأن يوفوا لهم بعهدهم ما داموا كذلك .
[ الثاني : ] قوم لهم عهود مطلقة غير مؤقتة ، فأمرهم أن ينبذوا إليهم عهدهم ، وأن يؤجلوهم أربعة أشهر ، فإذا انقضت الأشهر المذكورة حلت
[ ص: 883 ] لهم دماؤهم وأموالهم .
القسم الثالث : قوم لا عهود لهم ، فمن استأمن منهم حتى يسمع كلام الله أمنه ، ثم رده إلى مأمنه ، فهؤلاء يقاتلون من غير تأجيل .
ومن لم يفرق بين هذا وهذا وظن أن العهود كلها كانت مؤجلة فهو بين أمرين :
أحدهما : أن يقول : يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=8961_8997للإمام أن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وإن كان مؤقتا ، فهذا مخالف لنص القرآن بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) ، وقد احتجوا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) ، والآية حجة عليهم ؛ لأنه إنما أباح نبذ عهدهم إليهم إذا خاف منهم خيانة ، فإذا لم يخف منهم خيانة لم يجز النبذ إليهم ، بل مفهوم هذه الآية مطابق لمنطوق تلك .
الأمر الثاني : أن يقول : بل
nindex.php?page=treesubj&link=8984العهد المؤقت لازم كما دل عليه الكتاب والسنة ، وهو قول جماهير العلماء ، فيقال له : فإذا كان كذلك فلم نبذ النبي - صلى الله عليه وسلم - العهد إلى جميع المعاهدين من المشركين ؟ وقد قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) ، فقد حرم
[ ص: 884 ] نبذ عهد هؤلاء ، وأوجب إتمام عهدهم إلى مدتهم ، فكيف يقال : إن الله - سبحانه وتعالى - أمر بنبذ العهود المؤقتة ؟ فقول من لا يجوز العهد المطلق قول في غاية الضعف ، كقول من يجوز نبذ كل عهد ، وإن كان مؤجلا بلا سبب ، فقوله سبحانه بعد هذا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=7كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ) ، فهؤلاء - والله أعلم - هم المستثنون في تلك الآية ، وهم الذين لهم عهد إلى مدة ، فإن هؤلاء لو كان عهدهم مطلقا لنبذ إليهم كما نبذ إلى غيرهم ، وإن كانوا مستقيمين كافين عن قتاله ، فإنه نبذ إلى جميع المشركين لأنه لم يكن لهم عهد مؤجل يستحقون به الوفاء ، وإنما كانت عهودهم مطلقة غير لازمة ، كالمشاركة ، والوكالة ، وكان عهدهم لأجل المصلحة ، فلما فتح الله
مكة ، وأعز الإسلام وأذل أهل الكفر لم يبق في الإمساك عن جهادهم مصلحة ، فأمر الله به ، ولم يأمر به حتى نبذ إليهم على سواء لئلا يكون قتالهم قبل إعلامهم غدرا .
وهذا قد يستدل به على أن العقد الجائز كالشركة ، والوكالة لا يثبت حكم فسخه في حق الآخر حتى يعلم بالفسخ ، ويحتج به من يقول : إن الوكيل لا ينعزل حتى يعلم بعزله .
قال غير واحد من السلف :
nindex.php?page=treesubj&link=32204_8949الأشهر الأربعة أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد ، فأما أرباب العهود فهم على عهودهم إلى انقضاء مدتهم ، وهذا لا يخالف قول من قال منهم : إنها للمشركين كافة : من له عهد ، ومن ليس له
[ ص: 885 ] عهد ، كما قاله
مجاهد ،
والسدي ،
nindex.php?page=showalam&ids=14980ومحمد بن كعب ، فإن أرباب العهد المؤقت يصير لهم عهد من وجهين ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق : " هذه الأربعة أجل لمن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمنه أقل من أربعة أشهر ، وكان أمانه غير محدود ، فأما من لا أمان له فهو حربي " ، فبين
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق أنها لأصحاب الأمان المطلق ، وإنما خالف من قبله : هل دخل فيها من لم يكن له عهد أصلا ؟
وأما ما يروى عن
الضحاك ،
وقتادة أنها " أمان لأصحاب العهد ، فمن
[ ص: 886 ] كان عهده أكثر منها حط إليها ، ومن كان عهده أقل منها رفع إليها ، ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاخ المحرم : خمسون ليلة " فهذا قول ضعيف ، وهو مبني على فهمين ضعيفين :
أحدهما : أن الحرم آخرها المحرم ، وقد تقدم فساده .
والثاني : أنه يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=8985نقض العهد المؤجل المحدود ، وقد تقدم بطلانه .
والذين ظنوا أن العهد لا يكون إلا مؤقتا ، والوفاء واجب ، حاروا في جواز
nindex.php?page=treesubj&link=8987البراءة إلى المشركين ، فصاروا إلى ما يظهر فساده ، فقالت طائفة : إنما يبرأ من نقض العهد ، وهذا باطل من وجوه كثيرة ، فإن من نقض العهد فلا عهد له ، ولا يحتاج هذا إلى براءة ولا أذان ، فإن
أهل مكة الذين صالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم
الحديبية لما نقضوا العهد سار إليهم ، وكتم مسيره ، ودعا الله أن يكتم خبره عنهم ، ولما كتب إليهم
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب بن أبي بلتعة بخبره أنزل الله فيه
[ ص: 887 ] ما أنزل ، ولم يفجأ أهل
مكة إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجنود الله قد نزلوا بساحتهم ، وهذا كان عام ثمان قبل نزول " براءة " .
وأيضا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل
أبا بكر ، وأردفه
بعلي - رضي الله عنهما - يؤذن بسورة " براءة " ، فنبذ العهود إلى جميع المشركين مطلقا ، لم ينبذها إلى من نقض دون من لم ينقض .
وأيضا ، فالقرآن نبذها إلى المشركين ، وإنما استثنى من كان له مدة ووفاء ، فمن كان فيه هذان الشرطان لم ينبذ إليه .
وأيضا ، فإنه سبحانه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=7كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) ، فجعل نفس الشرك مانعا من العهد إلا الذين لهم عهد مؤقت وهم به موفون .
[ ص: 888 ] وقالت طائفة من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد : بل العهد الذي أمر بنبذه إنما هو منعهم من البيت ، وقتالهم في الشهر الحرام . قالوا : وهذا لفظ القاضي
أبي يعلى .
وفصل الخطاب في هذا الباب : أنه قد كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين جميع المشركين عهد ، وهو أن لا يصد أحد عن البيت ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام ، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر ، وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى أجل مسمى ، فأمر بالوفاء لهم ، وإتمام عهدهم إذا لم يخش غدرهم .
وهذا أيضا ضعيف جدا : وذلك أن منعهم من البيت حكم أنزل في غير هذه الآية في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) : وهذا المعنى غير معنى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) .
وأيضا ، فمنعهم من
المسجد الحرام عام فيمن كان له عهد ومن لم يكن له عهد ، والبراءة خاصة بالمعاهدين كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) ، ولم يقل : ( إلى جميع المشركين ) كما قال هناك : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) .
[ ص: 889 ] وأيضا فمن له أجل يوفى له إلى أجله ، وهم الذين عاهدوه ، فما استقاموا لهم يستقيم لهم ، ومع هذا فهم ممنوعون من
المسجد الحرام .
وأيضا فالمنع من
المسجد الحرام كان ينادي به
أبو بكر وأعوانه
علي وغيره - رضي الله عنهم أجمعين - ، فينادون يوم النحر : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350446لا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان " .
وأما نبذ العهود فإنما تولاه
علي - رضي الله عنه - لأجل العادة التي كانت في العرب .
وأيضا ،
nindex.php?page=treesubj&link=9051فالأمان الذي كان لحجاج البيت لم يكن بعهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمان منه ، بل كان هذا دينهم في الجاهلية ، وقام الإسلام عليه حتى أنزل الله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، فبهذه الآية منعوا ، لا بالبراءة من المعاهدين ، وقد كان أنزل الله فيهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) ، فنهوا عن التعرض لقاصديه مطلقا ، ثم لما منع منه المشركون ، وعلموا أنهم ممنوعون من جهة الله تعالى ، كان من أمنهم بعد ذلك ظالما لنفسه محاربا لله ورسوله .
[ ص: 890 ] وأما
nindex.php?page=treesubj&link=32204_32685القتل في الشهر الحرام فقد كان محرما بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=217يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) .
وفي نسخه قولان للسلف : فإن كان لم ينسخ لم يكن في الآية إذن فيه ، وإن كان منسوخا فليس في " البراءة " ما يدل على نسخه ، ولا قال أحد من السلف : إن هذه الآية أباحت القتال في الشهر الحرام ، وإنها الناسخة لتحريمه ، فإن هذه الآية إنما فيها البراءة من المعاهدين ، والشهر الحرام ، كان تحريمه عاما ، فلم يكن يجوز أن يقاتل فيه المحاربون وآية تحريم القتال فيه إنما نزلت بسبب
ابن الحضرمي قبل ، ولم يكونوا معاهدين ، وإنما عاهدهم بعد
بدر بأربع سنين .
وأيضا ، فإنه استثنى من الذين تبرأ إليهم من عاهده عند
المسجد الحرام ، وأولئك لا يباح قتالهم لا في الشهر الحرام ولا غيره ، فكيف يكون الذي
[ ص: 891 ] أباحه إنما هو القتال في الشهر الحرام ؟
وأيضا ، فالأشهر الحرم في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) ، إن كانت " الثلاثة ورجبا " ، فهذا يدل على بقاء التحريم فيها ، فبطل هذا القول ، وإن كانت " الأربعة التي أولها يوم الحج الأكبر عام حج
أبو بكر - رضي الله عنه - ، وآخرها ربيع " ، فقد حرم فيها قتال من ليس له عهد ، وأباح قتالهم إذا انقضت ، فلو كان إنما أباح قتال من كان يباح قتاله في الأشهر الحرم ولا عهد له ، فهذا محارب محض لا حاجة إلى تأجيله أربعة أشهر ، فإن قتاله كان مباحا عند هؤلاء في غير الأربعة .
وأيضا فعلى هذا التقدير ، إنما
nindex.php?page=treesubj&link=9005أباح الله قتل من نبذ إليه العهد إذا انقضت هذه الأربعة ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .
فلو كان قتال هؤلاء الذين نبذ إليهم العهود مباحا في غيرها لم يشترط في حله انقضاء الأربعة أشهر : فإن ذلك يقتضي أن قتالهم مباح إذا انقضت الأربعة ، فإن المعلق بالشرط عدم عند عدمه ، فكيف يقال : إن قتالهم كان مباحا ، سواء انقضت هذه أو لم تنقض ؟ وإنما كان يحرم قتالهم في تلك الأربعة لا مطلقا .
فهذه التكلفات التي يظهر فيها من تحريف القرآن ما يبين فسادها بناها أصحابها على أصل فاسد ، وهو أن المعاهدين لا يكون عهدهم إلا إلى أجل مسمى ! وهو خلاف الكتاب والسنة ، وخلاف الأصول وخلاف مصلحة
[ ص: 892 ] العالمين .
فإذا علم أن المعاهدين يتناول النوعين ، وأن
nindex.php?page=treesubj&link=8962الله أمر بنبذ العهد الذي ليس بعقد لازم ، وأمر بالوفاء بالعهد اللازم ، كان في هذا إقرار للقرآن على ما دل عليه ، ووافقته عليه السنة وأصول الشرع ، ومصالح الإسلام ، والله المستعان .
168 - فَصْلٌ
[ هَلْ تَجُوزُ الْهُدْنَةُ الْمُطْلَقَةُ دُونَ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ ] .
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعْقِدَ
nindex.php?page=treesubj&link=8955الْهُدْنَةَ مَعَ الْكُفَّارِ عَقْدًا مُطْلَقًا لَا يُقَدِّرُهُ بِمُدَّةٍ ، بَلْ يَقُولُ : " نَكُونُ عَلَى الْعَهْدِ مَا شِئْنَا " ، وَمَنْ أَرَادَ فَسْخَ
[ ص: 875 ] الْعَقْدِ فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا أَعْلَمَ الْآخَرَ ، وَلَمْ يَغْدِرِ بِهِ ، " أَوْ يَقُولُ : " نُعَاهِدُكُمْ مَا شِئْنَا ، وَنُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا ؟ "
فَهَذَا فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ، قَالَ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
أَحْمَدَ كَالْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " ، وَالشَّيْخِ فِي " الْمُغْنِي " ، وَلَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهُ .
وَالثَّانِي : يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ فِي " الْمُخْتَصَرِ " ، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَدَ طَائِفَةٌ آخِرُهُمُ
ابْنُ حَمْدَانَ .
وَالْمَذْكُورُ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَازِمَةً بَلْ جَائِزَةً ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ لِلْإِمَامِ فَسْخَهَا مَتَى شَاءَ . وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ لِقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ الْأَوَّلِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَسَطٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ .
[ ص: 876 ] وَأَجَابَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِأَهْلِ خَيْبَرَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350442نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " بِأَنَّ الْمُرَادَ : نُقِرُّكُمْ مَا أَذِنَ اللَّهُ فِي إِقْرَارِكُمْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ .
قَالَ : وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ ، فَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً تَكُونُ لَازِمَةً مُؤَبَّدَةً كَالذِّمَّةِ ، فَلَا تَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ الْهُدْنَةُ لَازِمَةً مُؤَبَّدَةً فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيَتِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمَرَ بِالْوَفَاءِ ، وَنَهَى عَنِ الْغَدْرِ ، وَالْوَفَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الصَّوَابُ - أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُهَا مُطْلَقَةً وَمُؤَقَّتَةً ، فَإِذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً جَازَ أَنْ تُجْعَلَ لَازِمَةً ، وَلَوْ جُعِلَتْ جَائِزَةً بِحَيْثُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ كَالشَّرِكَةِ ، وَالْوَكَالَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا جَازَ ذَلِكَ ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُنْبَذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ .
وَيَجُوزُ عَقْدُهَا مُطْلَقَةً ، وَإِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَكُونَ لَازِمَةَ التَّأْبِيدِ ، بَلْ مَتَى شَاءَ نَقَضَهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ فِيهَا الْمَصْلَحَةُ ، وَالْمَصْلَحَةُ قَدْ تَكُونُ فِي هَذَا وَهَذَا .
وَلِلْعَاقِدِ أَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ لَازِمًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، وَلَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ جَائِزًا يُمْكِنُ فَسْخُهُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ ، وَلَيْسَ هَنَا مَانِعٌ ، بَلْ هَذَا قَدْ يَكُونُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ ، فَإِنَّهُ إِذَا عَقَدَ عَقْدًا إِلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَقَدْ تَكُونُ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ
[ ص: 877 ] فِي مُحَارَبَتِهِمْ قَبْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؟
وَعَامَّةُ عُهُودِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ كَذَلِكَ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ، جَائِزَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ ، مِنْهَا عَهْدُهُ مَعَ أَهْلِ
خَيْبَرَ ، مَعَ أَنَّ
خَيْبَرَ فُتِحَتْ ، وَصَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ ، لَكِنَّ سُكَّانَهَا كَانُوا هُمُ
الْيَهُودَ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُسْلِمٌ ، وَلَمْ تَكُنْ بَعْدُ نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي " بَرَاءَةٌ " عَامَ
تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ،
وَخَيْبَرُ فُتِحَتْ قَبْلَ
مَكَّةَ بَعْدَ
الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سَبْعٍ . وَمَعَ هَذَا ،
فَالْيَهُودُ كَانُوا تَحْتَ حُكْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْعَقَارَ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350443نُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا " ، أَوْ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350444مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " .
وَقَوْلُهُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350444مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " يُفَسِّرُهُ اللَّفْظُ الْآخَرُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ : أَنَّا مَتَى شِئْنَا أَخْرَجْنَاكُمْ مِنْهَا .
وَلِهَذَا أَمَرَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِإِخْرَاجِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَأَنْفَذَ ذَلِكَ
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
nindex.php?page=showalam&ids=16935مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ : أَنَّ كُلَّ ذِمَّةٍ عُقِدَتْ لِلْكُفَّارِ
[ ص: 878 ] فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ، يُقِرُّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِمْ ، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُمْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ .
وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ ، لَهُ حَظٌّ مِنَ الْفِقْهِ .
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350442نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " أَرَادَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ إِقْرَارَكُمْ ، وَقَدَّرَ ذَلِكَ وَقَضَى بِهِ ، أَيْ : فَإِذَا قَدَّرَ إِخْرَاجَكُمْ ، بِأَنْ يُرِيدَ إِخْرَاجَكُمْ فَنُخْرِجَكُمْ ، لَمْ نَكُنْ ظَالِمِينَ لَكُمْ ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : أَنَا أُقِيمُ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا أَقَامَنِي . وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350444مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ " : إِنَّا نُقِرُّكُمْ مَا أَبَاحَ اللَّهُ بِوَحْيٍ ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٍ ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْإِقْرَارَ الْمَقْضِيَّ كَمَا قَالَ : " مَا شِئْنَا " .
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ ، وَالتَّوَاتُرِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=8961النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا حَجَّ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَامَ تِسْعٍ ، فَنَبَذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ ذَلِكَ الْعَامَ ، وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ
أَبَا بَكْرٍ بِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِأَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ الْعُقُودَ وَيُحِلُّهَا إِلَّا الْمُطَاعُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ فِي ذَلِكَ سُورَةُ بَرَاءَةٌ ، فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=2فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ) الْآيَاتِ ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَنْزَلَ الْبَرَاءَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَجَعَلَ لَهُمْ سِيَاحَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ : وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي
[ ص: 879 ] قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْحُرُمُ هِيَ الْحُرُمَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ) .
قَالَ شَيْخُنَا : وَمَنْ جَعَلَ هَذِهِ هِيَ تِلْكَ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ قَدْ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهَا "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350445ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " وَهَذِهِ لَيْسَتْ مُتَوَالِيَةً فَلَا يُقَالُ فِيهَا : " فَإِذَا انْسَلَخَتْ " فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا انْسَلَخَتْ بَقِيَ رَجَبٌ ، فَإِذَا انْسَلَخَ رَجَبٌ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ يَأْتِي الْحُرُمُ ، فَلَيْسَ جَعْلُ هَذَا انْسِلَاخًا بِأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا : ( انْسَلَخَ ) إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَّصِلِ .
ثُمَّ إِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ فِي تِلْكَ الْحُرُمِ مُبَاحٌ ، فَكَيْفَ يَقُولُ : فَإِذَا انْسَلَخَ ذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبٌ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ، وَهُوَ قَدْ أَبَاحَ فِيهَا قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ ؟
وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ حَجَّةِ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، وَكَانَ حَجُّهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى الْعَادَةِ لِأَجْلِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانُوا يَنْسَئُونَ فِيهَا
[ ص: 880 ] لِأَشْهُرٍ ، وَإِنَّمَا اسْتَدَارَ الزَّمَانُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ سَنَةَ عَشْرٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى سَيَّرَ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَأْمَنُونَ فِيهَا ، وَتِلْكَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=32204الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ - وَهِيَ أَشْهُرُ التَّسْيِيرِ - عَلَى أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا هِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=36مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ) .
وَهَذَا يُحْكَى عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ .
[ ص: 881 ] الثَّانِي : أَنَّ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا نُقِلَ عَنْ
مُجَاهِدٍ ،
وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
[ ص: 882 ] وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ آخِرُهَا الْعَاشِرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ آخِرَهَا عَاشِرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنَّهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَادَى بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ فِي الْمُشْرِكِينَ : إِنَّ لَكُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ تَسِيحُونَ فِيهَا ، وَيَوْمَ النَّحْرِ كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ بِالِاتِّفَاقِ عَاشِرَ ذِي الْقَعْدَةِ ، فَانْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْسِئُونَ الْأَشْهُرَ ، فَذُو الْقَعْدَةِ يَجْعَلُونَهُ مَوْضِعَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَصَفَرٌ مَوْضِعَ الْمُحَرَّمِ ، وَرَبِيعٌ الْأَوَّلُ مَوْضِعَ صَفَرٍ ، وَرَبِيعٌ الْآخِرُ مَوْضِعَ الْأَوَّلِ ، فَالَّذِي كَانُوا يَجْعَلُونَهُ ذَا الْحِجَّةِ هُوَ ذُو الْقَعْدَةِ ، وَالَّذِي جَعَلُوهُ رَبِيعًا الْآخِرَ هُوَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَكَلَّمَ بِعِبَارَتِهِمْ إِذْ ذَاكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ ، وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
[ الْأَوَّلُ : ] أَهْلُ
nindex.php?page=treesubj&link=8983عَهْدٍ مُؤَقَّتٍ ، لَهُمْ مُدَّةٌ وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ لَمْ يَنْقُصُوا الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِمَّا شَرَطُوا لَهُمْ ، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدًا ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُوفُوا لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ .
[ الثَّانِي : ] قَوْمٌ لَهُمْ عُهُودٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ ، وَأَنْ يُؤَجِّلُوهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْمَذْكُورَةُ حَلَّتْ
[ ص: 883 ] لَهُمْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : قَوْمٌ لَا عُهُودَ لَهُمْ ، فَمَنِ اسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ أَمَّنَهُ ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ ، فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ .
وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَظَنَّ أَنَّ الْعُهُودَ كُلَّهَا كَانَتْ مُؤَجَّلَةً فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ : يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=8961_8997لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا ، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ) ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ) ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَ نَبْذَ عَهْدِهِمْ إِلَيْهِمْ إِذَا خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً ، فَإِذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُمْ خِيَانَةً لَمْ يَجُزِ النُّبَذُ إِلَيْهِمْ ، بَلْ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِمَنْطُوقِ تِلْكَ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : بَلِ
nindex.php?page=treesubj&link=8984الْعَهْدُ الْمُؤَقَّتُ لَازِمٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، فَيُقَالُ لَهُ : فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ نَبَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَهْدَ إِلَى جَمِيعِ الْمُعَاهَدِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ) ، فَقَدْ حَرَّمَ
[ ص: 884 ] نَبْذَ عَهْدِ هَؤُلَاءِ ، وَأَوْجَبَ إِتْمَامَ عَهْدِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِنَبْذِ الْعُهُودِ الْمُؤَقَّتَةِ ؟ فَقَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْعَهْدَ الْمُطْلَقَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ ، كَقَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ نَبْذَ كُلِّ عَهْدٍ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا بِلَا سَبَبٍ ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=7كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ، فَهَؤُلَاءِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - هُمُ الْمُسْتَثْنَوْنَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ ، وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ كَانَ عَهْدُهُمْ مُطْلَقًا لَنَبَذَ إِلَيْهِمْ كَمَا نَبَذَ إِلَى غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ كَافِّينَ عَنْ قِتَالِهِ ، فَإِنَّهُ نَبَذَ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَجَّلٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْوَفَاءَ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عُهُودُهُمْ مُطْلَقَةً غَيْرَ لَازِمَةٍ ، كَالْمُشَارَكَةِ ، وَالْوَكَالَةِ ، وَكَانَ عَهْدُهُمْ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
مَكَّةَ ، وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَذَلَّ أَهْلَ الْكُفْرِ لَمْ يَبْقَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ جِهَادِهِمْ مَصْلَحَةٌ ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ حَتَّى نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ لِئَلَّا يَكُونَ قِتَالُهُمْ قَبْلَ إِعْلَامِهِمْ غَدْرًا .
وَهَذَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْجَائِزَ كَالشَّرِكَةِ ، وَالْوَكَالَةِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ فَسْخِهِ فِي حَقِّ الْآخَرِ حَتَّى يَعْلَمَ بِالْفَسْخِ ، وَيَحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْلَمَ بِعَزْلِهِ .
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ :
nindex.php?page=treesubj&link=32204_8949الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ أَمَانٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ وَلَا عَهْدٌ ، فَأَمَّا أَرْبَابُ الْعُهُودِ فَهُمْ عَلَى عُهُودِهِمْ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِمْ ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إِنَّهَا لِلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً : مَنْ لَهُ عَهْدٌ ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ
[ ص: 885 ] عَهْدٌ ، كَمَا قَالَهُ
مُجَاهِدٌ ،
وَالسُّدِّيُّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14980وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْعَهْدِ الْمُؤَقَّتِ يَصِيرُ لَهُمْ عَهْدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابْنُ إِسْحَاقَ : " هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ أَجَلُّ لِمَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَّنَهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَكَانَ أَمَانُهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ ، فَأَمَّا مَنْ لَا أَمَانَ لَهُ فَهُوَ حَرْبِيٌّ " ، فَبَيَّنَ
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهَا لِأَصْحَابِ الْأَمَانِ الْمُطْلَقِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ مَنْ قَبْلَهُ : هَلْ دَخَلَ فِيهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُهَدٌ أَصْلًا ؟
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ
الضَّحَّاكِ ،
وَقَتَادَةَ أَنَّهَا " أَمَانٌ لِأَصْحَابِ الْعَهْدِ ، فَمَنْ
[ ص: 886 ] كَانَ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا حُطَّ إِلَيْهَا ، وَمَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَقَلَّ مِنْهَا رُفِعَ إِلَيْهَا ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ انْسِلَاخُ الْمُحَرَّمِ : خَمْسُونَ لَيْلَةً " فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمَيْنِ ضَعِيفَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُرُمَ آخِرُهَا الْمُحَرَّمُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=8985نَقْضُ الْعَهْدِ الْمُؤَجَّلِ الْمَحْدُودِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ .
وَالَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُؤَقَّتًا ، وَالْوَفَاءَ وَاجِبٌ ، حَارُوا فِي جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=8987الْبَرَاءَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ، فَصَارُوا إِلَى مَا يَظْهَرُ فَسَادُهُ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إِنَّمَا يَبْرَأُ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ، فَإِنَّ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ فَلَا عَهْدَ لَهُ ، وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى بَرَاءَةٍ وَلَا أَذَانٍ ، فَإِنَّ
أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ صَالَحَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ سَارَ إِلَيْهِمْ ، وَكَتَمَ مَسِيرَهُ ، وَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَكْتُمَ خَبَرَهُ عَنْهُمْ ، وَلَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِمْ
nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِخَبَرِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
[ ص: 887 ] مَا أَنْزَلَ ، وَلَمْ يَفْجَأْ أَهْلَ
مَكَّةَ إِلَّا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُنُودُ اللَّهِ قَدْ نَزَلُوا بِسَاحَتِهِمْ ، وَهَذَا كَانَ عَامَ ثَمَانٍ قَبْلَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " .
وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ
أَبَا بَكْرٍ ، وَأَرْدَفَهُ
بِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُؤْذِنُ بِسُورَةِ " بَرَاءَةٌ " ، فَنَبَذَ الْعُهُودَ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا ، لَمْ يَنْبِذْهَا إِلَى مَنْ نَقَضَ دُونَ مَنْ لَمْ يَنْقُضْ .
وَأَيْضًا ، فَالْقُرْآنُ نَبَذَهَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مَنْ كَانَ لَهُ مُدَّةٌ وَوَفَاءٌ ، فَمَنْ كَانَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ لَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=7كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ) ، فَجَعَلَ نَفْسَ الشِّرْكِ مَانِعًا مِنَ الْعَهْدِ إِلَّا الَّذِينَ لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ وَهُمْ بِهِ مُوفُونَ .
[ ص: 888 ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ : بَلِ الْعَهْدُ الَّذِي أُمِرَ بِنَبْذِهِ إِنَّمَا هُوَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْبَيْتِ ، وَقِتَالُهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ . قَالُوا : وَهَذَا لَفْظُ الْقَاضِي
أَبِي يَعْلَى .
وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ، وَهُوَ أَنْ لَا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ ، وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْوَامٍ مِنْهُمْ عُهُودٌ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ لَهُمْ ، وَإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِذَا لَمْ يَخْشَ غَدْرَهُمْ .
وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ جِدًّا : وَذَلِكَ أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ حُكْمٌ أُنْزِلَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) : وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
وَأَيْضًا ، فَمَنْعُهُمْ مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامٌّ فِيمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ ، وَالْبَرَاءَةُ خَاصَّةٌ بِالْمُعَاهَدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، وَلَمْ يَقُلْ : ( إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ ) كَمَا قَالَ هُنَاكَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) .
[ ص: 889 ] وَأَيْضًا فَمَنْ لَهُ أَجَلٌ يُوَفَّى لَهُ إِلَى أَجَلِهِ ، وَهُمُ الَّذِينَ عَاهَدُوهُ ، فَمَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ يَسْتَقِيمُ لَهُمْ ، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَأَيْضًا فَالْمَنْعُ مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَانَ يُنَادِي بِهِ
أَبُو بَكْرٍ وَأَعْوَانُهُ
عَلَيٌّ وَغَيْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - ، فَيُنَادُونَ يَوْمَ النَّحْرِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350446لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ " .
وَأَمَّا نَبْذُ الْعُهُودِ فَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَجْلِ الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْعَرَبِ .
وَأَيْضًا ،
nindex.php?page=treesubj&link=9051فَالْأَمَانُ الَّذِي كَانَ لِحُجَّاجِ الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ بِعَهْدٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَانٍ مِنْهُ ، بَلْ كَانَ هَذَا دِينُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) ، فَبِهَذِهِ الْآيَةِ مُنِعُوا ، لَا بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ ، وَقَدْ كَانَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) ، فَنُهُوا عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَاصِدِيهِ مُطْلَقًا ، ثُمَّ لَمَّا مُنِعَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَانَ مَنْ أَمَّنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ .
[ ص: 890 ] وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=32204_32685الْقَتْلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَدْ كَانَ مُحَرَّمًا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=217يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) .
وَفِي نَسْخِهِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ : فَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْسَخْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ إِذَنْ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخًا فَلَيْسَ فِي " الْبَرَاءَةِ " مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبَاحَتِ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَإِنَّهَا النَّاسِخَةُ لِتَحْرِيمِهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا فِيهَا الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ ، كَانَ تَحْرِيمُهُ عَامًّا ، فَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ فِيهِ الْمُحَارِبُونَ وَآيَةُ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهِ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ
ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ ، وَإِنَّمَا عَاهَدَهُمْ بَعْدَ
بَدْرٍ بِأَرْبَعِ سِنِينَ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنَ الَّذِينَ تَبَرَّأَ إِلَيْهِمْ مَنْ عَاهَدَهُ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَأُولَئِكَ لَا يُبَاحُ قِتَالُهُمْ لَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا غَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ الَّذِي
[ ص: 891 ] أَبَاحَهُ إِنَّمَا هُوَ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؟
وَأَيْضًا ، فَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ) ، إِنْ كَانَتِ " الثَّلَاثَةَ وَرَجَبًا " ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ التَّحْرِيمِ فِيهَا ، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ ، وَإِنْ كَانَتِ " الْأَرْبَعَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عَامَ حَجَّ
أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، وَآخِرُهَا رَبِيعٌ " ، فَقَدْ حَرَّمَ فِيهَا قِتَالَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ ، وَأَبَاحَ قِتَالَهُمْ إِذَا انْقَضَتْ ، فَلَوْ كَانَ إِنَّمَا أَبَاحَ قِتَالَ مَنْ كَانَ يُبَاحُ قِتَالُهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَا عَهْدَ لَهُ ، فَهَذَا مُحَارِبٌ مَحْضٌ لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْجِيلِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّ قِتَالَهُ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ .
وَأَيْضًا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، إِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=9005أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَ مَنْ نَبَذَ إِلَيْهِ الْعَهْدَ إِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .
فَلَوْ كَانَ قِتَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَبَذَ إِلَيْهِمُ الْعُهُودَ مُبَاحًا فِي غَيْرِهَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي حِلِّهِ انْقِضَاءَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ : فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ قِتَالَهُمْ مُبَاحٌ إِذَا انْقَضَتِ الْأَرْبَعَةُ ، فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ قِتَالَهُمْ كَانَ مُبَاحًا ، سَوَاءٌ انْقَضَتْ هَذِهِ أَوْ لَمْ تَنْقَضِ ؟ وَإِنَّمَا كَانَ يُحَرِّمُ قِتَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ لَا مُطْلَقًا .
فَهَذِهِ التَّكَلُّفَاتُ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا مِنْ تَحْرِيفِ الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَهَا بَنَاهَا أَصْحَابُهَا عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعَاهَدِينَ لَا يَكُونُ عَهْدُهُمْ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ! وَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَخِلَافُ الْأُصُولِ وَخِلَافُ مَصْلَحَةِ
[ ص: 892 ] الْعَالَمِينَ .
فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُعَاهَدِينَ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=8962اللَّهَ أَمَرَ بِنَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ اللَّازِمِ ، كَانَ فِي هَذَا إِقْرَارٌ لِلْقُرْآنِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ، وَوَافَقَتْهُ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَأُصُولُ الشَّرْعِ ، وَمَصَالِحُ الْإِسْلَامِ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .