وترى كل أمة جاثية الكلام على قوله تعالى :
الجاثية : الجالسة على الركب ، والمعنى أنها غير مطمئنة ، والأقدام يوم القيامة مثل النبل في الجعبة ، والسعيد من يجد لقدميه موضعا .
قوله تعالى كل أمة تدعى إلى كتابها فيه قولان : أحدهما : كتاب حسناتها وسيئاتها ، رواه عن أبو صالح ، والثاني : كتابها الذي أنزل على رسولها ، ذكره ابن عباس الماوردي .
قال : الأرض كلها نار يوم القيامة والجنة من ورائها يرون أكوابها وكواعبها ، ويعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قامة ثم يرتفع إلى أنفه وما مسه الحساب بعد ، قالوا : ومم ذاك ؟ قال : مما يرى الناس يصنع بهم ، قيل له : فأين المؤمنون ؟ قال : على كراسي قد ظلل عليهم بالغمام ، ما طول ذلك اليوم عليهم إلا كساعة من نهار . ابن مسعود
يا من قد ملأ كتابه بالقبيح وهو عن قليل رهن الضريح ، ألا تمحو قبح ما سطرت ، هلا تدبرت ما تملي ونظرت ، لقد سودت الكتاب بالزلل ، وأكثر ما دخل المنطق الدخل ، وحتام وإلام ؟ أبقي شيء بعد وهن العظام ؟
يا دائما على هجره وإعراضه ، يا ساعيا في هواه وأغراضه ، يا من قد أخذ بناء جسمه [ ص: 547 ] في انتقاضه ، عليل الخطايا لا يزال في إمراضه ، هذا عسكر الممات قد دنا بارتكاضه ، هذا برق العتاب قد لج بإيماضه ، كيف قدر جفن العاصي على إغماضه ، كيف ينسى ما قد مات قدما من أبعاضه ، لو سمع صخر الفلاة لومك أو ذاق الألم من إمضاضه ، لعادت جلاميد الفلا كرضراضه ، يا من يعلم غلط عذره ووجه إدحاضه ، يا ساعيا إلى ما يؤذي بركاضه ، يا هاجرا نصيحه ليته أبغض قبيحه كإبغاضه ، استقرض المالك بعض مالك وتقعد عن إقراضه ، لقد أنذرك سهم الردى وقوعه قبل إنباضه ، فأحد حد حديدته وأسنه بمقراضه :
بادر بمعروفك آفاته فبنية الدنيا على القلعة وازرع زروعا يرتضى ريعها
يوما فكل حاصد زرعه
إخواني : كيف بكم إذا صاح إسرافيل في الصور بالصور ، فخرجت تسعى من تحت المدر ، وقد رجت الأرض وبست الجبال ، وشخصت الأبصار لتلك الأهوال ، وطارت الصحائف فقلق الخائف وشاب الصغار ، وبان الصغار ، وزفرت النار وأحاطت الأوزار ، ونصب الصراط وآلمت السياط ، وحضر الحساب وقوي العذاب ، وشهد الكتاب وتقطعت الأسباب ، فكم من شيخ يقول : واشيبتاه ، وكم من كهل ينادي : واخيبتاه ، وكم من شاب يصيح : واشباباه ، برزت النار فأحرقت ، وزفرت غضبا فمزقت ، وتقطعت الأفئدة وتفرقت ، وقامت ضوضاء الجدل ، وأحاط بصاحبه العمل ، والأحداق قد سالت والأعناق قد مالت ، والألوان قد حالت ، والمحن قد توالت ، أين عدتك لذلك الزمان ، أين تصحيح اليقين والإيمان ، أترضى يومئذ بالخسران ؟ أما تعلم أنك كما تدين تدان ؟ كم في كتابك من زلل ، كم في عملك من خلل ، هذا وقد قرب الأجل ، إي والله أجل ، كم ضيعت واجبا وفرضا ونقضت عهدا محكما نقضا ، وأتيت حراما صريحا محضا ، يا أجسادا صحاحا فيها قلوب مرضى . هذا نذير الموت قد غدا يقول : الرحيل غدا ، كأنكم والله والأمر معا ، طوبى لمن سمع فوعى ،
عباد الله : أطول الناس حزنا في الدنيا أكثرهم فرحا في الآخرة ، وأشد الناس خوفا في الدنيا أكثرهم أمنا في الآخرة ، يقول الله عز وجل : " أنا لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، إذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة ، وإذا خافني في الدنيا أمنته في الآخرة "
[ ص: 548 ] إخواني : المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر في نيران الخوف ، يرهب العاقبة ، ويحذر المعاقبة ، فالنار متمكنة من سويداء قلبه ، إن هو هفا توقدت في باطنه نار الندم ، وإن تذكر ذنبا اضطرمت نار الحزن ، وإن تفكر في منقلبه التهبت نار الحذر ، وإن صفا قلبه لمحبة خالقه صار القلب جمرة بنار الفرق ، فإذا ورد القيامة عادت ناره نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، فإذا جاز على الصراط لم تقاوم نار التعذيب نيران التهذيب ، فتنادي بلسان الاعتراف بالتفضيل : جز فقد أطفأ نورك لهبي ! .
فإن هو حضر القيامة على زلل لم تصدق توبته منه فأوجب ذلك خمود نوره فقد خبت نار حذره في باطن قلبه ، فإذا لفحته جهنم فأحرقت ظاهره أحست بأثر شعلة الخوف في باطنه فكفت كفها عنه ، فلو قيل لها أين شدة شدتك وأين حديدة حدتك لقالت : لا مقاومة لي بنيران باطنه وإن قلت :
يحرق بالنار من يحس بها فمن هو النار كيف يحترق
إخواني : أحضروا القلوب لهذا الملام ، تالله ما أكرم نفسه من لا يهينها ، ولا يزينها من لا يشينها .
دخل رضي الله عنه على غلام له يعلف ناقته فرأى في علفها ما كره فأخذ بأذن غلامه فعركها ثم ندم فقال : افعل بي ما فعلت بك ، فأبى الغلام فلم يدعه حتى فعل فجعل عثمان رضي الله عنه يقول له : شد شد ، حتى ظن أنه قد بلغ منه مثل ما بلغ ثم قال عثمان : واها لقصاص الدنيا قبل قصاص الآخرة . عثمان
كان القوم تحت حجر المحاسبة وكأنك مطلق .
كان يقول : ألا منتبه من رقدته ، ألا مستيقظ من غفلته ، ألا مفيق من سكرته ، ألا خائف من صرعته ، أقسم بالله لو رأيت القيامة تخفق بزلازل أهوالها وقد علت النار مشرفة على أهلها وجيء بالنبيين والشهداء لسرك أن يكون لك في ذلك الجمع منزلة وزلفى . ابن السماك
أبعد الدنيا دار معتمل ، أم إلى غير الآخرة منتقل ؟ كلا والله لقد صمت الأسماع عن المواعظ وذهلت القلوب عن المنافع .
[ ص: 549 ] وعظ أعرابي ابنه فقال : أي بني إنه من خاف الموت بادر الفوت ، ومن لم يكبح نفسه عن الشهوات أسرعت به التبعات ، والجنة والنار أمامك .
فيا ليتني هامدا لا أقوم إذا نهضوا ينفضون اللمم
ونادى المنادي على غفلة فلم يبق في أذن من صمم
وجاءت صحائف قد ضمنت كبائر آثامهم واللمم
ظهرت أهوال لا توصف ، وبدت أمور لا تعرف ، وكشف حالات لم تكن تكشف ، إن لم تنتبه لهذا فأنت أعرف ، ستعلم من يلوم نفسه عند عذابها كل أمة تدعى إلى كتابها قيدت جهنم فبدت بأزمتها ، فبكت النفوس على دناءة همتها ، كم من ديون تعلقت بذمتها ، على أنه يكفيها ما بها كل أمة تدعى إلى كتابها .
أنت تدري ما في كتابك ، وستبكي والله عند عتابك ، وستعلم حالك يوم حسابك ، إذا كلت كل الألسن عن جوابها كل أمة تدعى إلى كتابها يا له يوم لا كالأيام ، تيقظ فيه من غفل ونام ، ويحزن كل من فرح في الآثام وتيقن أن أحلى ما كنت فيه أحلام ، واعجبا لضحك نفس البكاء أولى بها كل أمة تدعى إلى كتابها .
كم من نفس ترى بعين الصلاح تفعل الخير في المساء والصباح ، عملت أعمالا ترجو بها الفلاح ، فلاح لها ما لم يكن في حسابها كل أمة تدعى إلى كتابها .
ذكر الله نفوسنا مر شرابها ، وجعلنا ممن مد باع التقوى فباع وشرى بها ، وحفظنا إذا حارت النفوس لشدة أوصابها ، ورزقنا قبول موعظته فقد أوصى بها كل أمة تدعى إلى كتابها .