في ذكر العزلة
الحمد لله الواحد القديم الجبار ، القادر العظيم القهار ، والمتعالي عن درك الخواطر والأفكار ، المنفرد بالعز والقهر والاقتدار ، الذي وسم كل مخلوق بسمة الافتقار ، فأظهر آثار قدرته بتصرف الليل والنهار ، سميع يسمع لا كالأسماع ، بصير يبصر لا كالأبصار ، قادر مريد حكيم عليم بالأسرار ، يبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على القار ، ويسمع أنين المدنف يشكو ما به من أضرار ، كلم موسى كفاحا لما قضى الأجل وسار ، ورآه نبينا صلى الله عليه وسلم دل على ذلك القرآن والأخبار ، ويراه المؤمنون إذا نزلوا دار القرار ، صفاته كذاته والمشبهة كفار ، نقر ونمر وأرباب البحث في خسار ، هذا سيف السنة فتناوله باليمين لا باليسار ، واضرب به كف " كيف " ورأس " لم " وعنق " ثم " وخذ للتنزيه من التشبيه بالثار أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار .
أحمده في الإعلان والإسرار ، وأشهد بوحدانيته بأصح إقرار ، وأصلي على رسوله محمد سيد الأنبياء الأطهار ، وعلى رفيقه في الدار والغار ، وعلى أبي بكر قامع الكفار ، وعلى عمر شهيد الدار ، وعلى عثمان قسيم النار ، وعلى عمه علي آخذ البيعة ليلة العقبة على العباس الأنصار
أخبرنا عبد الأول بسنده ، عن عطاء بن يزيد ، عن ، أبي سعيد الخدري . قيل : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال : " رجل يجاهد بنفسه وماله ، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ، ويدع الناس من شره "
أخرجاه في الصحيحين .
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد البزار ، قال : أنبأنا بسنده ، عن رزق الله بن عبد الوهاب ، عن أبيه ، عن عبد العزيز بن أبي حازم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة " إن من خير معايش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه يطير على متنه كلما سمع هيعة أو [ ص: 647 ] قرعة طار على متن فرسه يلتمس الموت والقتل مكانه ، ورجل في رأس شعفة من الشعاف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ، ليس من الناس إلا في سبيل خير .
قال أبو عبيدة : الهيعة : الصوت . قال الطرماح :
أنا ابن حماة المجد من آل مالك إذا جعلت خور الرجال تهيع
والخور جمع خوار وهو الضعيف ، والشعفة واحدة الشعاف ، وهي رؤوس الجبال ، وهي الشماريخ ، والشناخيب واحدها شنخوبة .وروي عن قال : قلت عقبة بن عامر يا رسول الله : ما النجاة ؟ قال : " املك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك "
قال الشيخ : وهذه الأحاديث تدل على . فضل العزلة
وقد كان السلف يؤثرونها ويمدحونها ، فقال : خذوا بحظكم من العزلة . عمر بن الخطاب
وقال : والله لوددت أن بيني وبين الناس بابا من حديد ، لا يكلمني أحد ولا أكلمه حتى ألحق بالله تعالى . سعد بن أبي وقاص
وقال لأصحابه : كونوا ينابيع العلم ، مصابيح الليل ، أحلاس البيوت ، جدد القلوب خلقان الثياب ، تعرفون في أهل السماء ، وتخفون على أهل الأرض . ابن مسعود
وقال : نعم صومعة الرجل بيته ، يكف فيها بصره ولسانه ، وإياكم والسوق فإنها تلهي وتلغي . أبو الدرداء
وقال : لولا مخافة الوسواس ، لرحلت إلى بلاد لا أنيس بها ، وهل يفسد الناس إلا الناس ! ابن عباس
كان أبو جهم الأنصاري بدريا ، وكان لا يجالس الناس وكان يعتزل في بيته ، فقالوا له : لو جالست الناس وجالسوك ؟ فقال : وجدت مقاربة الناس شرا .
وقال : والله لوددت أن لي إنسانا يكون في مالي ، ثم أغلق علي بابا فلا يدخل علي أحد حتى ألحق بالله عز وجل . أبو حذيفة
وقال : صوامع المؤمنين بيوتهم . الحسن
[ ص: 648 ] وقال سعيد بن المسيب : العزلة عبادة . وابن سيرين
وقال : إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ، ويهرب من الناس ، فاقربوا منه فإنه يلقى الحكمة . عمر بن عبد العزيز
وكان عثمان بن أبي دهرش إذا رأى الفجر أقبل عليه بثه ، وقال : الآن أصير مع الناس ، فلا أدري ما أجني على نفسي !
وقال : فر من الناس كما تفر من الأسد . داود الطائي
وأوصى بعض أصحابه فقال : إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحدا فافعل ، وليكن همك مرمة جهازك . سفيان الثوري
وكان يقول : هذا زمان السكوت ولزوم البيوت .
وجاء رجل إلى الفضيل فجلس إليه ، فقال : ما أجلسك إلي ؟ فقال : رأيتك وحدك ، فقال : إما أن تقوم عني ، وإما أن أقوم عنك ، فقال : أنا أقوم أوصني . فقال : أخف مكانك ، واحفظ لسانك .
وجاء رجل إلى ، فقال : ما جاء بك ؟ فقال : جئت أونسك ، فقال : أنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة ! شعيب بن حرب
وقال : كان الناس الذين مضوا يحبون العزلة والانفراد من الناس . مالك بن أنس
وقال : من عامل الله بالصدق استوحش من الناس . بشر الحافي
وقد كان يحب العزلة ، أحمد بن حنبل ، وإبراهيم بن أدهم وسليمان الخواص ، ويوسف بن أسباط ، وحذيفة المرعشي في خلق كثير .
واعلم أن ، وإنما ينبغي أن يعتزل الإنسان ما يؤذي ، وقد يخاف من المخالطة المباحة أذى ، فيجتهد الإنسان في ترك ما يخاف عواقبه . العزلة لا ينبغي أن تقطع عن العلم ، والجماعات ، ومجالس الذكر ، والاحتراف للعائلة
ويبعد حضور القلب مع المخالطة للناس ، إلا أن يكون لمعنى .
وقد قال : الناس ثلاثة : رجل تعلمه فيقبل منك ، ورجل تتعلم منه ، واهرب من الثالث . شعيب بن حرب
وقد كان يقول : أقل من معرفة الناس . الثوري
وقال : لا تتعرف إلى من لا تعرف ، وأنكر من تعرف ! إبراهيم بن أدهم
إني نظرت إلى الزمان وأهله نظرا كفاني
فعرفته وعرفتهم وعرفت عزي من هواني
[ ص: 649 ] فحملت نفسي بالقناعة عنهم وعن الزمان
وتركتها بعفافها والزهد في أعلى مكان
فلذاك أجتنب الصديق فلا أراه ولا يراني
فتعجبوا لمغالت وهب الأقاصي والأداني
وانسل من بين الزحام فما له في الخلق ثاني
وفصل الخطاب في هذا : أن الناس على ضربين : عالم وعابد ، فالعالم لا ينبغي له أن ينقطع عن نفع الناس فإنه خلف الأنبياء ، وليعلم أن هداية الخلق أفضل من كل عبادة .
وفي الصحيحين أن عليه السلام : " والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " لعلي . النبي صلى الله عليه وسلم قال
فمتى ما جاء الشيطان فحسن للعالم الانقطاع عن الخلق في الجملة فذاك خديعة منه ، ولقد حسن لكثير من السلف دفن كتبهم ، ومحو علمهم ، وهذا من الخطأ العجيب ، بل ينبغي للعالم أن يعتزل عن شر من يؤذي ، ويبرز لمن يستفيد ، فظهوره أفضل من إخفائه .
فأما إن كان عابدا فالعابد لا ينافس في هذا ، فإن من القوم من شغلته العبادة ، كما روي أن رأى رجلا متعبدا ، فأتاه فقال : يا عبد الله ما يمنعك من مجالسة الناس ؟ قال : ما أشغلني عن الناس ، قال : فما منعك أن تأتي الحسن ؟ فقال : ما أشغلني عن الحسن . قال : فما الذي شغلك عن الحسن ؟ قال : إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة ، فرأيت أن أشغل نفسي بالاستغفار للذنب والشكر لله تعالى على النعمة . فقال له : أنت عندي أفقه من الحسن ! الحسن
وقال رجل : قف فكلمني . فقال : أمسك الشمس ! لعامر بن عبد قيس
ومن القوم من استغرقته محبة الله تعالى والأنس به ، فاستوحش من الخلق ، قيل لغزوان الزاهد : لو جالست إخوانك ؟ فقال : إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي .
تعبي راحتي وأنسي انفرادي وشفائي الضنا ونومي سهادي
لست أشكو بعاد من صد عني أي بعد وقد ثوى في فؤادي
هو يختال بين قلبي وعيني هو ذاك الذي يرى في السواد
فهؤلاء عزلتهم أصلح لهم ، بل لا ينبغي أن تشغلهم العزلة عن الجماعات ومجالسة العلماء ، فإن فعلوا كان ذلك من الشيطان ، وإنما نأمر العوام باعتزال الشر فحسب ، فإنه الجهاد في حقهم .
[ ص: 650 ] واعلم أن السمع يوصل إلى القلب خبر المسموعات ، والبصر خبر المنظورات ، ورب نظرة نقشت في القلب صورة فبعد محوها ، فإن الإنسان ليمشي في الأسواق فيتغير قلبه ، والعزلة توجب السلامة من ذلك ، وقد كان في الصالحين من إذا خرج للسوق فكسب ما يكفيه قام إلى المسجد .
فالبدار ، البدار إلى حفظ القلوب بالعزلة عن كل ما يؤذي .