فصل
وأما ما قاله
عز الدين ؛ فالكلام فيه على ما تقدم :
nindex.php?page=treesubj&link=20531فأمثلة الواجب منها من قبل ما لا يتم الواجب إلا به كما قال ـ فلا يشترط أن يكون معمولا به في السلف ، ولا أن يكون له أصل في الشريعة على الخصوص .
ولأنه من باب المصالح المرسلة لا من البدع .
أما هذا الثاني فقد تقدم .
وأما الأول ؛ لو كان ثم من يسير إلى فريضة الحج طيرانا في الهواء ، أو مشيا على الماء ؛ لم يعد مبتدعا بمشيه كذلك ؛ لأن المقصود إنما هو التوصل إلى
مكة لأداء الفرض ، وقد حصل على الكمال ، فكذلك هذا .
على أن هذه أشياء قد ذمها بعض من تقدم من المصنفين في طريقة التصوف ، وعدها من جملة ما ابتدع الناس ، وذلك غير صحيح ، ويكفي في رده إجماع الناس قبله على خلاف ما قال .
على أنه نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=14947القاسم بن مخيمرة : أنه ذكرت العربية ، فقال : " أولها كبر ، وآخرها بغي " .
وحكي أن بعض السلف قال : " النحو يذهب الخشوع من القلب ،
[ ص: 254 ] ( و ) من أراد أن يزدري الناس كلهم ؛ فلينظر في النحو " .
ونقل نحوا من هذه .
وهذه كلها لا دليل فيها على الذم ؛ لأنه لم يذم النحو من حيث هو بدعة ، بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد ؛ كما يذم سائر علماء السوء ؛ لا لأجل علومهم ، بل لأجل ما يحدث لهم بالعرض من الكبر به والعجب وغيرهما ، ولا يلزم من ذلك كون العلم بدعة .
فتسمية العلوم التي يكتسب بها أمر مذموم بدعا إما على المجاز المحض من حيث لم يحتج إليها أولا ثم احتيج بعد ، أو من عدم المعرفة بموضوع البدعة ، إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكبر والزهو وغيرهما ، ولا يعود ذلك عليها بذم .
ومما حكى بعض هذه المتصوفة عن بعض علماء الخلف قال : " العلوم تسعة ، أربعة منها سنة معروفة من الصحابة والتابعين ، وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف ، فأما الأربعة المعروفة : فعلم الإيمان ، وعلم القرآن ، وعلم الآثار ، والفتاوى ، وأما الخمسة المحدثة : فالنحو ، والعروض ، وعلم المقاييس ، والجدل في الفقه ، وعلم المعقول بالنظر " . انتهى .
وهذا ـ إن صح نقله ـ فليس أولا كما قال ؛ فإن أهل العربية يحكون عن
nindex.php?page=showalam&ids=11822أبي الأسود الدؤلي : أن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي أشار عليه بوضع شيء في النحو حين سمع أعرابيا قارئا يقرأ : أن الله بريء من المشركين ورسوله ـ ؛ بالجر .
[ ص: 255 ] وقد روي عن
ابن مليكة : أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة ، وأمر
أبا الأسود ، فوضع النحو .
والعروض من جنس النحو .
وإذا كانت الإشارة من واحد من الخلفاء الراشدين ؛ صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنة الخلفاء الراشدين ، وإن سلم أنه ليس كذلك ؛ فقاعدة المصالح تعم علوم العربية ، ( أي : تكون من ) قبيل المشروع ، فهي من جنس كتب المصحف وتدوين الشرائع .
وما ذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=14947القاسم بن مخيمرة قد رجع عنه ؛ فإن
nindex.php?page=showalam&ids=15611أحمد بن يحيى ثعلبا ، قال : " كان أحد الأئمة في الدين يعيب النحو ، ويقول : أول تعلمه شغل ، وآخره بغي ، يزدرى به الناس ، فقرأ يوما : إنما يخشى الله من عباده العلماء ؛ ( برفع الله ونصب العلماء ) فقيل له : كفرت من حيث لا تعلم تجعل الله يخشى العلماء ؟ فقال : لا طعنت عن علم يؤول إلى معرفة هذا أبدا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12111عثمان بن سعيد الداني : " الإمام الذي ذكره
أحمد بن يحيى هو
nindex.php?page=showalam&ids=14947القاسم بن مخيمرة " .
قال : " وقد جرى
لعبد الله بن أبي إسحاق مع
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين كلام ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين ينتقص النحويين ، فاجتمعا في جنازة ، فقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين إنما يخشى الله من عباده العلماء ؛ برفع اسم الله ، فقال له
[ ص: 256 ] ابن أبي إسحاق : كفرت يا
أبا بكر تعيب على هؤلاء الذين يقيمون كتاب الله ؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين : إن كنت أخطأت ؛ فأستغفر الله " .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=21701علم المقاييس فأصله في السنة ، ثم في علم السلف بالقياس ، ثم قد جاء في ذم القياس أشياء حملوها على القياس الفاسد ، وهو القياس على غير أصل ، وهو عمدة كل مبتدع .
- وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28431الجدل في الفقه ؛ فذلك من قبيل النظر في الأدلة ، وقد كان السلف الصالح يجتمعون للنظر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها للتعاون على استخراج الحق ، فهو من قبيل التعاون على البر والتقوى ، ومن قبيل المشاورة المأمور بها ، فكلاهما مأمور به .
- وأما علم المعقول بالنظر ؛ فأصل ذلك في الكتاب والسنة ؛ لأن الله تعالى احتج في القرآن على المخالفين لدينه بالأدلة العقلية ؛ كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=40هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=40أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات
وحكى عن
إبراهيم عليه السلام محاجته للكفار بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي إلخ .
[ ص: 257 ] وفي الحديث حين ذكرت العدوى :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005308 " فمن أعدى الأول ؟ " .
إلى غير ذلك من الأدلة .
فكيف يقال : إنه من البدع ؟
- وقول
عز الدين : " إن الرد على القدرية وكذا ( غيرهم ) من أهل البدع من البدع الواجبة " ، غير جار على الطريق الواضح ، ولو سلم ؛ فهو من المصالح المرسلة .
وأما أمثلة
nindex.php?page=treesubj&link=20425البدع المحرمة ؛ فظاهرة .
وأما أمثلة
nindex.php?page=treesubj&link=20422المندوبة ؛ فذكر منها إحداث الربط والمدارس :
- فإن عنى بالربط ما بني من الحصون والقصور قصدا للرباط فيها ؛ فلا شك أن ذلك مشروع بشرعية الرباط ولا بدعة فيه .
وإن عنى بالربط ما بني لالتزام سكناها قصد الانقطاع إلى العبادة ؛ فإن إحداث الربط التي شأنها أن تبنى تدينا للمنقطعين للعبادة - في زعم المحدثين - ويوقف عليها أوقاف يجري منها على الملازمين لها ما يقوم بهم في معاشهم من طعام أو لباس وغيرهما ؛ لا يخلو أن يكون لها أصل في الشريعة أم لا ، فإن لم يكن أصل ؛ دخلت في الحكم تحت قاعدة
nindex.php?page=treesubj&link=20422_20423_20425البدع التي هي ضلالات ؛ فضلا عن أن تكون مباحة ؛ فضلا عن أن تكون مندوبا إليها ، وإن كان لها أصل ؛ فليس ببدعة ، فإدخالها تحت جنس البدع غير صحيح .
[ ص: 258 ] ثم إن كثيرا ممن تكلم على هذه المسألة من المصنفين في التصوف تعلقوا
بالصفة التي كانت في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع فيها فقراء المهاجرين ، وهم الذين نزل فيهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه الآية ، وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=28واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية ، فوصفهم ( الله ) بالتعبد والانقطاع إلى الله بدعائه قصدا لله خالصا ، فدل على أنهم انقطعوا لعبادة الله ، لا يشغلهم عن ذلك شاغل ، فنحن إنما صنعنا صفة مثلها أو تقاربها ، يجتمع فيها من أراد أن ينقطع إلى الله ويلتزم العبادة ، ويتجرد عن الدنيا والشغل بها ، وذلك كان شأن الأولياء أن ينقطعوا عن الناس ، ويشتغلوا بإصلاح بواطنهم ، ويولوا وجوههم شطر الحق ، فهم على سيرة من تقدم .
وإنما يسمى ذلك بدعة باعتبار ما ، بل هي سنة ، وأهلها متبعون للسنة ، فهي طريقة خاصة لأناس ، ولذلك لما قيل لبعضهم : في كم تجب الزكاة ؟ قال : على مذهبنا أم على مذهبكم ؟ ثم قال : أما على مذهبنا ؛ فالكل لله ، وأما على مذهبكم ؛ فكذا وكذا ، أو كما قال .
وهذا كله من الأمور التي جرت عند كثير من الناس هكذا ؛ غير محققة ، ولا منزلة على الدليل الشرعي ، ولا على أحوال الصحابة والتابعين .
ولا بد من بسط طرف من الكلام في هذه المسألة - بحول الله - حتى يتبين الحق فيها لمن أنصف ولم يغالط نفسه ، وبالله التوفيق .
[ ص: 259 ] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى
المدينة ؛ كانت الهجرة واجبة على كل مؤمن بالله ممن كان
بمكة أو غيرها ، فكان منهم من احتال على نفسه ، فهاجر بماله أو شيء منه ، فاستعان به لما قدم
المدينة في حرفته التي كان يحترف من تجارة أو غيرها -
nindex.php?page=showalam&ids=1كأبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ فإنه هاجر بجميع ماله ، وكان خمسة آلاف - ، ومنهم من فر بنفسه ، ولم يقدر على استخلاص شيء من ماله ، فقدم
المدينة صفر اليدين .
وكان الغالب على
أهل المدينة العمل في حوائطهم وأموالهم بأنفسهم ، فلم يكن لغيرهم معهم كبير فضل في العمل .
وكان من
المهاجرين من أشركهم
الأنصار في أموالهم ، وهم الأكثرون ؛ بدليل قصة
بني النضير ؛ فإن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه ؛ قال :
لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ؛ قال للأنصار : " إن شئتم قسمتها بين المهـاجرين وتركتم نصيبكم فيها وخلى المهاجرون بينكم وبين دوركم وأموالكم ؛ فإنهم عيال عليكم " ، فقالوا : نعم ، ففعل ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم ؛ غير أنه أعطى أبا دجانة nindex.php?page=showalam&ids=3753وسهل بن حنيف ، وذكر أنهم فقراء .
وقد قال
المهاجرون أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ! يا رسول الله ! ما رأينا قوما أبذل من كثير ، ولا أحسن مواساة من قليل ؛ من قوم نزلنا بين أظهرهم - يعني :
الأنصار - ؛ لقد كفونا المؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005310لا ؛ ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم .
[ ص: 260 ] ( ومنهم ) من كان يلتقط نوى التمر ، فيرضها ، ويبيعها علفا للإبل ، ويتقوت من ذلك الوجه .
( ومنهم ) من لم يجد وجها يكتسب به لقوت ولا لسكنى ، فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في
صفة كانت في مسجده ، وهي
سقيفة كانت من جملته ، إليها يأوون ، وفيها يقعدون ، إذ لم يجدوا مالا ولا أهلا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحض الناس على إعانتهم ، والإحسان إليهم .
وقد وصفهم
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة رضي الله عنه ، إذ كان من جملتهم ، وهو أعرف الناس بهم ؛ قال في الصحيح : " وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون على أهل ولا مال ، ولا على أحد ، إذا أتته - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - صدقة ؛ بعث بها إليهم ، ولا يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية ؛ أرسل إليهم ، وأصاب منها ، وأشركهم فيها " .
فوصفهم بأنهم أضياف الإسلام ، وحكم لهم - كما ترى - بحكم الأضياف ، وإنما وجبت الضيافة في الجملة ؛ لأن من نزل
بالبادية ؛ لا يجد منزلا ولا طعاما لشراء ، إذ لم يكن
لأهل الوبر أسواق ينال منها ما يحتاج إليه من طعام يشترى ، ولا خانات يأوى إليها ، فصار الضيف مضطرا وإن كان ذا مال ، فوجب على أهل الموضع ( ضيافته وإيواؤه ) حتى يرتحل ، فإن كان لا مال له ؛ فذلك أحرى .
فكذلك
أهل الصفة لما لم يجدوا منزلا آواهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد حتى يجدوا ، كما أنهم حين لم يجدوا ما يقوتهم ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى إعانتهم .
[ ص: 261 ] وفيهم نزل قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية .
فوصفهم الله تعالى بأوصاف ؛ منها : أنهم أحصروا في سبيل الله ؛ أي : منعوا وحبسوا حين قصدوا الجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم ، كأن العذر أحصرهم ، فلا يستطيعون ضربا في الأرض ؛ لاتخاذ المسكن ولا للمعاش ؛ لأن العدو قد كان أحاط
بالمدينة ، فلا هم يقدرون على الجهاد حتى يكسبوا من غنائمه ، ولا هم يتفرغون للتجارة أو غيرها لخوفهم من الكفار ولضعفهم في أول الأمر ، فلم يجدوا سبيلا للكسب أصلا .
وقد قيل : إن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273لا يستطيعون ضربا في الأرض أنهم قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصاروا زمنى .
وفيهم أيضا نزل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم .
ألا ترى كيف قال : أخرجوا ، ولم يقل : خرجوا من ديارهم وأموالهم ؟ ! فإنه قد كان يحتمل أن يخرجوا اختيارا ، فبان أنهم إنما خرجوا اضطرارا ، ولو وجدوا سبيلا ( أن ) لا يخرجوا ؛ لفعلوا ؟ ففيه ما يدل على أن الخروج من المال اختيارا ليس بمقصود للشارع ، وهو الذي تدل عليه أدلة الشريعة .
[ ص: 262 ] فلأجل ذلك بوأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الصفة ، فكانوا في أثناء ذلك ما بين طالب للقرآن والسنة -
nindex.php?page=showalam&ids=3كأبي هريرة ؛ فإنه قصر نفسه على ذلك ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : " وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ؟ - ، وكان منهم من يتفرغ إلى ذكر الله وعبادته وقراءة القرآن ، فإذا غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ غزا معه ، وإذا أقام ؛ أقام معه .
حتى فتح الله على رسوله وعلى المؤمنين ، فصاروا إلى ما صار الناس إليه غيرهم ممن كان له أهل ومال من طلب المعاش واتخاذ المسكن ؛ لأن العذر الذي حبسهم في الصفة قد زال ، فرجعوا إلى الأصل لما زال العارض .
فالذي حصل : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29407القعود في الصفة لم يكن مقصودا لنفسه ، ولا بناء الصفة للفقراء مقصودا ؛ بحيث يقال : إن ذلك مندوب إليه لمن قدر عليه ، ولا هي رتبة شرعية تطلب ؛ بحيث يقال : إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الزوايا يشبه حالة
أهل الصفة ، وهي الرتبة العليا ؛ لأنها تشبه
بأهل صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين وصفهم الله تعالى في القرآن بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52ولا تطرد الذين يدعون ربهم . . . الآية ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=28واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية ؛ فإن ذلك لم يكن على ما زعم هؤلاء ، بل كان على ما تقدم .
[ ص: 263 ] والدليل على ذلك من العمل أن المقصود
nindex.php?page=treesubj&link=29407بالصفة لم يدم ، ولم يثابر أهلها ولا غيرهم على البقاء فيها ، ولا عمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان من قصد الشارع ثبوت تلك الحالة ؛ لكانوا هم أحق بفهمها أولا ، ثم بإقامتها والمكث فيها عن كل شغل ، وأولى بتجديد معاهدها ، لكنهم لم يفعلوا ذلك ألبتة .
فالتشبه
بأهل الصفة إذا في إقامة ذلك المعنى واتخاذ الزوايا والربط لا يصح ، فليفهم الموفق هذا الموضع ؛ فإنه مزلة قدم لمن لم يأخذ دينه عن السلف الأقدمين والعلماء الراسخين .
ولا يظن العاقل أن القعود عن الكسب ولزوم الربط مباح أو مندوب إليه أو أفضل من غيره ، إذ ليس ذلك بصحيح ، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها .
ويكفي المسكين المغتر بعمل الشيوخ المتأخرين : أن صدور هذه الطائفة - المتسمين
بالصوفية - لم يتخذوا رباطا ولا زاوية ، ولا بنوا بناء يضاهون به
الصفة للاجتماع على التعبد والانقطاع عن أسباب الدنيا ؛
nindex.php?page=showalam&ids=14919كالفضيل بن عياض ،
nindex.php?page=showalam&ids=12358وإبراهيم بن أدهم ،
والجنيد ،
وإبراهيم الخواص ،
nindex.php?page=showalam&ids=15166والحارث المحاسبي ،
والشبلي . . . وغيرهم ممن سابق في هذا الميدان .
وإنما محصول هؤلاء أنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخالفوا السلف الصالح ، وخالفوا شيوخ الطريقة التي انتسبوا إليها ، ولا توفيق إلا بالله .
- وأما
nindex.php?page=treesubj&link=20403المدارس ؛ فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله : بدعة ؛
[ ص: 264 ] إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا بالمساجد ، وهذا لا يوجد ، بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان ؛ من مسجد ، أو منزل ، أو سفر ، أو حضر ، أو غير ذلك ، حتى في الأسواق ، فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة ؛ فلا يزيد ذلك على إعدادها لها منزلا من منازله ، أو حائطا من حوائطه ، أو غير ذلك ، فأين مدخل البدعة هاهنا ؟ !
وإن قيل : إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره ، والتخصيص هاهنا ليس بتخصيص تعبدي ، وإنما هو تعيين بالحبس ؛ كما تتعين سائر الأموال المحبسة ، وتخصيصها ليس ببدعة ، فكذلك ما نحن فيه .
بخلاف الربط ؛ فإنها خصت تشبيها
بالصفة بهما للتعبد ، فصارت تعبدية بالقصد والعرف ، حتى إن ساكنيها مباينون لغيرهم في النحلة والمذهب والزي والاعتقاد .
- وكذلك ما ذكر من بناء القناطر ؛ فإنه راجع إلى إصلاح الطرق ، وإزالة المشقة عن سالكيها ، وله أصل في شعب الإيمان ، وهو إماطة الأذى عن الطريق ، فلا يصح أن يعد في البدع بحال .
- وقوله : "
nindex.php?page=treesubj&link=20343_20385_20407وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول " فيه تفصيل ، فلا يخلو الإحسان المفروض أن يفهم من الشريعة أنه مقيد بقيد تعبدي أولا .
فإن كان مقيدا بالتعبد الذي لا يعقل معناه ؛ فلا يصح أن يعمل به إلا على ذلك الوجه .
[ ص: 265 ] وإن كان غير مقيد في أصل التشريع بأمر تعبدي ؛ فلا يقال : إنه غير بدعة على أي وجه وقع ؛ إلا على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يخرج أصلا شرعيا مثل الإحسان المتبع بالمن والأذى والصدقة من المديان المضروب على يده ، وما أشبه ذلك ، ( و ) يكون إذ ذاك معصية .
والثاني : أن يلتزم على وجه لا يتعدى ؛ بحيث يفهم منه الجاهل أنه لا يجوز إلا على ذلك الوجه ، فحينئذ يكون الالتزام المشار إليه بدعة مذمومة وضلالة ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله ، فلا تكون إذا مستحبة .
والثالث : أن يجري على رأي من يرى المعقول المعنى وغيره بدعة مذمومة ؛ كمن كره تنخيل الدقيق في العقيقة ، فلا تكون عنده البدعة مباحة ولا مستحبة .
- وصلاة التراويح تقدم الكلام عليها .
- وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29404الكلام في دقائق التصوف ؛ فليس ببدعة بإطلاق ، ولا هو مما صح بالدليل بإطلاق ، بل الأمر ينقسم .
ولفظ التصوف لا بد من شرحه أولا حتى يقع الحكم على أمر مفهوم ؛ لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين ، فلنرجع إلى ما قال فيه المتقدمون .
وحاصل ما يرجع إليه لفظ التصوف عندهم معنيان :
أحدهما : التخلق بكل خلق سني ، والتجرد عن كل خلق دني .
[ ص: 266 ] والآخر : أنه الفناء عن نفسه ، والبقاء لربه .
وهما في التحقيق إلى معنى واحد ؛ إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية والآخر يصلح التعبير به عن النهاية ، وكلاهما اتصاف ؛ إلا أن الأول لا يلزمه الحال والثاني يلزمه الحال ، وقد يعتبر فيهما بلفظ آخر ؛ فيكون الأول عملا تكليفيا والثاني نتيجته ، ويكون الأول اتصاف الظاهر والثاني اتصاف الباطن ، ومجموعهما هو التصوف .
وإذا ثبت هذا ؛ فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة في الكلام فيه ؛ لأنه إنما يرجع إلى تفقه ينبني عليه : العمل ، وتفصيل آفاته وعوارضه ، وأوجه تلافي الفساد الواقع فيه بالإصلاح ، وهو فقه صحيح ، وأصوله في الكتاب والسنة ظاهرة ، فلا يقال في مثله : بدعة ؛ إلا إذا أطلق على فروع الفقه التي لم يلف مثلها في السلف الصالح : أنها بدعة ؛ كفروع أبواب السلم ، والإجارات ، والجراح ، ومسائل السهو ، والرجوع عن الشهادات ، وبيوع الآجال . . . . وما أشبه ذلك .
وليس من شأن العلماء إطلاق لفظ البدعة على الفروع المستنبطة التي لم تكن فيما سلف ، وإن دقت مسائلها ، فكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=29404_20343لا يطلق على دقائق فروع الأخلاق الظاهرة والباطنة : أنها بدعة ؛ لأن الجميع يرجع إلى أصول شرعية .
وأما بالمعنى الثاني ؛ فهو على أضرب :
أحدها : يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين إذا دخل عليهم نور
nindex.php?page=treesubj&link=29416التوحيد الوجداني ، فيتكلم فيها بحسب الوقت والحال ، وما يحتاج إليه في النازلة الخاصة ؛ رجوعا إلى الشيخ المربي ، وما بين له في تحقيق
[ ص: 267 ] مناطها بفراسته الصادقة في السالك بحسبه وبحسب العارض ، فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية ، أو بإصلاح مقصده إن عرض فيه العارض ، فقلما يطرأ العارض إلا عند الإخلال ببعض الأصول الشرعية التي بني عليها في بدايته ، فقد قالوا : إنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول .
فمثل هذا لا بدعة فيه ؛ لرجوعه إلى أصل شرعي :
ففي الصحيح من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005311أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه ناس من أصحابه رضي الله عنهم ، فقالوا : يا رسول الله ! إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به - أو الكلام به - ما نحب أن لنا وأنا تكلمنا به . قال : " أوقد وجدتموه ؟ " ، قالوا : نعم ، قال : " ذلك صريح الإيمان " .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005312جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به . قال : " الله أكبر ، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " .
وفي حديث آخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005313 " من وجد من ذلك شيئا ؟ فليقل : آمنت بالله " .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في مثله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005314 " إذا وجدت شيئا من ذلك ؛ فقل : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . . . إلى أشباه
[ ص: 268 ] ذلك ، وهو صحيح مليح .
والثاني : يرجع إلى
nindex.php?page=treesubj&link=28805_20343النظر في الكرامات ، وخوارق العادات ، وما يتعلق بها مما هو خارق في الحقيقة أو غير خارق ، وما هو منها يرجع إلى أمر نفسي أو شيطاني ، أو ما أشبه ذلك من أحكامها . . . فهذا النظر ليس ببدعة ، كما أنه ليس ببدعة النظر في المعجزات وشروطها ، والفرق بين النبي والمتنبي ، وهو من علم الأصول ، فحكمه حكمه .
والثالث : ما يرجع إلى
nindex.php?page=treesubj&link=20343النظر في مدركات النفوس ؛ من العالم الغائب ، وأحكام التجريد النفسي ، والعلوم المتعلقة بعالم الأرواح ، وذوات الملائكة والشياطين ، والنفوس الإنسانية والحيوانية . . . وما أشبه ذلك .
وهو بلا شك بدعة مذمومة إن وقع النظر فيه والكلام عليه بقصد جعله علما ينظر فيه وفنا يشتغل بتحصيله بتعلم أو رياضة ؛ فإنه لم يعهد مثله في السلف الصالح ، وهو في الحقيقة نظر فلسفي ، إنما يشتغل باستجلابه والرياضة لاستفادته أهل الفلسفة ، الخارجون عن السنة ، المعدودون في الفرق الضالة ، فلا يكون الكلام فيه مباحا ؛ فضلا عن أن يكون مندوبا إليه .
نعم ؛ قد يعرض مثله للسالك ، فيتكلم فيه مع المربي ، حتى يخرجه عن طريقه ، ويبعد بينه وبين فريقه ؛ لما فيه من إمالة مقصد السالك إلى أن يعبد الله على حرف ؛ زيادة إلى الخروج عن الطريق المستقيم بتتبعه والالتفات إليه ، إذ الطريق مبني على الإخلاص التام بالتوجه الصادق ، وتجريد التوحيد عن الالتفات إلى الأغيار ، وفتح باب الكلام في هذا الضرب مضاد لذلك كله .
[ ص: 269 ] والرابع : يرجع إلى
nindex.php?page=treesubj&link=20343_29555النظر في حقيقة الفناء من حيث الدخول فيه ، والاتصاف بأوصافه ، وقطع أطماع النفس عن كل جهة توصل إلى غير المطلوب وإن دقت ؛ فإن أهواء النفوس تدق وتسري مع السالك في المقامات ، فلا يقطعها إلا من حسم مادتها وبت طلاقها ، وهو باب الفناء المذكور .
وهذا نوع من أنواع الفقه المتعلق بأهواء النفوس ، ولا يعد من البدع ؛ لدخوله تحت جنس الفقه ؛ لأنه - وإن دق - راجع إلى ما جل من الفقه ، ودقته وجلته إضافيان ، والحقيقة واحدة .
وثم أقسام أخر ؛ جميعها إما يرجع إلى فقه شرعي حسن في الشرع ، وإما إلى ابتداع ليس بشرعي وهو قبيح في الشرع .
وأما الجدل وجمع المحافل للاستدلال على المسائل ؛ فقد مر الكلام فيه .
وأما أمثلة
nindex.php?page=treesubj&link=20424البدع المكروهة ؛ فعد منها : زخرفة المساجد ، وتزويق المصاحف ، وتلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي ، فإن أراد مجرد الفعل من غير اقتران أمر آخر ؛ فغير مسلم ، وإن أراد مع اقتران قصد التشريع ؛ فصحيح ما قال ، إذ البدعة لا تكون بدعة إلا مع اقتران هذا القصد ، فإن لم يقترن ؛ فهي منهي عنها غير بدع .
وأما أمثلة
nindex.php?page=treesubj&link=20423البدع المباحة ؛ فعد منها المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ، أما أنها بدع ؛ فمسلم ، وأما أنها مباحة ؛ فممنوع ، إذ لا دليل في الشرع يدل على تخصيص تلك الأوقات بها ، بل هي مكروهة ، إذ يخاف
[ ص: 270 ] بدوامها إلحاقها [ بـ ] الصلوات المذكورة ؛ كما خاف مالك وصل ستة أيام من شوال برمضان لإمكان أن يعدها من رمضان ، وكذلك وقع .
فقد قال
القرافي : " قال لي
nindex.php?page=showalam&ids=16383الشيخ زكي الدين عبد العظيم المحدث : إن الذي خشي منه
مالك رضي الله عنه قد وقع بالعجم ، فصاروا يتركون المسحرين على عاداتهم والبواقين وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام ، فحينئذ يظهرون شعائر العيد .
قال : وكذلك شاع عند عامة
مصر أن الصبح ركعتان ؛ إلا في يوم الجمعة ؛ فإنه ثلاث ركعات ؛ لأجل أنهم يرون الإمام يواظب على قراءة سورة السجدة يوم الجمعة في صلاة الصبح ويسجد ، فيعتقدون أن تلك ركعة أخرى واجبة .
قال : " وسد هذه الذرائع متعين في الدين ، وكان
مالك رحمه الله شديد المبالغة فيها " .
وعد
ابن عبد السلام nindex.php?page=treesubj&link=20423من البدع المباحة التوسع في الملذوذات ، وقد تقدم ما فيه .
والحاصل من جميع ما ذكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام ، بل هي من قبيل المنهي عنه : إما كراهة ، وإما تحريما ؛ حسبما يأتي إن شاء الله .
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَا قَالَهُ
عِزُّ الدِّينِ ؛ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ :
nindex.php?page=treesubj&link=20531فَأَمْثِلَةُ الْوَاجِبِ مِنْهَا مِنْ قِبَلِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ كَمَا قَالَ ـ فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْخُصُوصِ .
وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنَ الْبِدَعِ .
أَمَّا هَذَا الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ ؛ لَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَسِيرُ إِلَى فَرِيضَةِ الْحَجِّ طَيَرَانًا فِي الْهَوَاءِ ، أَوْ مَشْيًا عَلَى الْمَاءِ ؛ لَمْ يُعَدَّ مُبْتَدِعًا بِمَشْيِهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى
مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ، وَقَدْ حَصَلَ عَلَى الْكَمَالِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
عَلَى أَنَّ هَذِهِ أَشْيَاءُ قَدْ ذَمَّهَا بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ ، وَعَدَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا ابْتَدَعَ النَّاسُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ إِجْمَاعُ النَّاسِ قَبْلَهُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ .
عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14947الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ : أَنَّهُ ذُكِرَتِ الْعَرَبِيَّةُ ، فَقَالَ : " أَوَّلُهَا كِبْرٌ ، وَآخِرُهَا بَغْيٌ " .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قَالَ : " النَّحْوُ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ مِنَ الْقَلْبِ ،
[ ص: 254 ] ( وَ ) مَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْدَرِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ ؛ فَلْيَنْظُرْ فِي النَّحْوِ " .
وَنَقَلَ نَحْوًا مِنْ هَذِهِ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى الذَّمِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذَمَّ النَّحْوُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِدْعَةٌ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ أَمْرٌ زَائِدٌ ؛ كَمَا يُذَمُّ سَائِرُ عُلَمَاءِ السُّوءِ ؛ لَا لِأَجْلِ عُلُومِهِمْ ، بَلْ لِأَجْلِ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ بِالْعَرَضِ مِنَ الْكِبْرِ بِهِ وَالْعُجْبِ وَغَيْرِهِمَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْعِلْمِ بِدْعَةً .
فَتَسْمِيَةُ الْعُلُومِ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا أَمْرٌ مَذْمُومٌ بِدَعًا إِمَّا عَلَى الْمَجَازِ الْمَحْضِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهَا أَوَّلًا ثُمَّ احْتِيجَ بَعْدُ ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَوْضُوعِ الْبِدْعَةِ ، إِذْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُدَاخِلُ صَاحِبَهَا الْكِبْرُ وَالزَّهْوُ وَغَيْرُهُمَا ، وَلَا يَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِذَمٍّ .
وَمِمَّا حَكَى بَعْضُ هَذِهِ الْمُتَصَوِّفَةِ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ قَالَ : " الْعُلُومُ تِسْعَةٌ ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَخَمْسَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِيمَا سَلَفَ ، فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ : فَعِلْمُ الْإِيمَانِ ، وَعِلْمُ الْقُرْآنِ ، وَعِلْمُ الْآثَارِ ، وَالْفَتَاوَى ، وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْمُحْدَثَةُ : فَالنَّحْوُ ، وَالْعَرُوضُ ، وَعِلْمُ الْمَقَايِيسِ ، وَالْجَدَلِ فِي الْفِقْهِ ، وَعِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ " . انْتَهَى .
وَهَذَا ـ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ ـ فَلَيْسَ أَوَّلًا كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَحْكُونَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11822أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ : أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ فِي النَّحْوِ حِينَ سَمِعَ أَعْرَابِيًّا قَارِئًا يَقْرَأُ : أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ـ ؛ بِالْجَرِّ .
[ ص: 255 ] وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
ابْنِ مُلَيْكَةَ : أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْقُرْآنَ إِلَّا عَالِمٌ بِاللُّغَةِ ، وَأَمَرَ
أَبَا الْأَسْوَدِ ، فَوَضَعَ النَّحْوَ .
وَالْعَرُوضُ مِنْ جِنْسِ النَّحْوِ .
وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ صَارَ النَّحْوُ وَالنَّظَرُ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَقَاعِدَةُ الْمَصَالِحِ تَعُمُّ عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ ، ( أَيْ : تَكُونُ مِنْ ) قَبِيلِ الْمَشْرُوعِ ، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ كَتْبِ الْمُصْحَفِ وَتَدْوِينِ الشَّرَائِعِ .
وَمَا ذُكِرَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14947الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=15611أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبًا ، قَالَ : " كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الدِّينِ يَعِيبُ النَّحْوَ ، وَيَقُولُ : أَوَّلُ تَعَلُّمِهِ شُغْلٌ ، وَآخِرُهُ بَغْيٌ ، يُزْدَرَى بِهِ النَّاسُ ، فَقَرَأَ يَوْمًا : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ ؛ ( بِرَفْعِ اللَّهِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ ) فَقِيلَ لَهُ : كَفَرْتَ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ تَجْعَلُ اللَّهَ يَخْشَى الْعُلَمَاءَ ؟ فَقَالَ : لَا طَعَنْتُ عَنْ عِلْمٍ يَؤُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا أَبَدًا .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12111عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ : " الْإِمَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى هُوَ
nindex.php?page=showalam&ids=14947الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ " .
قَالَ : " وَقَدْ جَرَى
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=16972مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَلَامٌ ، وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابْنُ سِيرِينَ يَنْتَقِصُ النَّحْوِيِّينَ ، فَاجْتَمَعَا فِي جِنَازَةٍ ، فَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابْنُ سِيرِينَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ ؛ بِرَفْعِ اسْمِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ
[ ص: 256 ] ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ : كَفَرْتَ يَا
أَبَا بَكْرٍ تَعِيبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ كِتَابَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابْنُ سِيرِينَ : إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ ؛ فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ " .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=21701عِلْمُ الْمَقَايِيسِ فَأَصْلُهُ فِي السُّنَّةِ ، ثُمَّ فِي عِلْمِ السَّلَفِ بِالْقِيَاسِ ، ثُمَّ قَدْ جَاءَ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ أَشْيَاءُ حَمَلُوهَا عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ ، وَهُوَ عُمْدَةُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ .
- وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28431الْجَدَلُ فِي الْفِقْهِ ؛ فَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْتَمِعُونَ لِلنَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لِلتَّعَاوُنِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَمِنْ قَبِيلِ الْمُشَاوَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، فَكِلَاهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ .
- وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ ؛ فَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى احْتَجَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِدِينِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ ؛ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=40هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=40أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ
وَحَكَى عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحَاجَّتَهُ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي إِلَخْ .
[ ص: 257 ] وَفِي الْحَدِيثِ حِينَ ذُكِرَتِ الْعَدْوَى :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005308 " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ ؟ " .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ .
فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ ؟
- وَقَوْلُ
عِزِّ الدِّينِ : " إِنَّ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَكَذَا ( غَيْرُهُمْ ) مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ " ، غَيْرُ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ ، وَلَوْ سُلِّمَ ؛ فَهُوَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ .
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=20425الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ ؛ فَظَاهِرَةٌ .
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=20422الْمَنْدُوبَةِ ؛ فَذَكَرَ مِنْهَا إِحْدَاثَ الرُّبْطِ وَالْمَدَارِسِ :
- فَإِنْ عَنَى بِالرُّبْطِ مَا بُنِيَ مِنَ الْحُصُونِ وَالْقُصُورِ قَصْدًا لِلرِّبَاطِ فِيهَا ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ بِشَرْعِيَّةِ الرِّبَاطِ وَلَا بِدْعَةَ فِيهِ .
وَإِنْ عَنَى بِالرُّبْطِ مَا بُنِيَ لِالْتِزَامِ سُكْنَاهَا قَصْدَ الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ ؛ فَإِنَّ إِحْدَاثَ الرُّبْطِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُبْنَى تَدَيُّنًا لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ - فِي زَعْمِ الْمُحْدَثِينَ - وَيُوقَفُ عَلَيْهَا أَوْقَافٌ يَجْرِي مِنْهَا عَلَى الْمُلَازِمِينَ لَهَا مَا يَقُومُ بِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ وَغَيْرِهِمَا ؛ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلٌ ؛ دَخَلَتْ فِي الْحُكْمِ تَحْتَ قَاعِدَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=20422_20423_20425الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَاتٌ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُنْدُوبًا إِلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ ؛ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ ، فَإِدْخَالُهَا تَحْتَ جِنْسِ الْبِدَعِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
[ ص: 258 ] ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّصَوُّفِ تَعَلَّقُوا
بِالصُّفَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي
مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهَا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الْآيَةَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=28وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَةَ ، فَوَصَفَهُمْ ( اللَّهُ ) بِالتَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ قَصْدًا لِلَّهِ خَالِصًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ انْقَطَعُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ ، لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ شَاغِلٌ ، فَنَحْنُ إِنَّمَا صَنَعْنَا صُفَّةً مِثْلَهَا أَوْ تُقَارِبُهَا ، يَجْتَمِعُ فِيهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ إِلَى اللَّهِ وَيَلْتَزِمَ الْعِبَادَةَ ، وَيَتَجَرَّدَ عَنِ الدُّنْيَا وَالشُّغْلِ بِهَا ، وَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَنْقَطِعُوا عَنِ النَّاسِ ، وَيَشْتَغِلُوا بِإِصْلَاحِ بَوَاطِنِهِمْ ، وَيُوَلُّوا وُجُوهَهُمْ شَطْرَ الْحَقِّ ، فَهُمْ عَلَى سِيرَةِ مَنْ تَقَدَّمَ .
وَإِنَّمَا يُسَمَّى ذَلِكَ بِدْعَةً بِاعْتِبَارٍ مَا ، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ ، وَأَهْلُهَا مُتَّبِعُونَ لِلسُّنَّةِ ، فَهِيَ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ لِأُنَاسٍ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ : فِي كَمْ تَجِبُ الزَّكَاةُ ؟ قَالَ : عَلَى مَذْهَبِنَا أَمْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ ؟ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا ؛ فَالْكُلُّ لِلَّهِ ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ ؛ فَكَذَا وَكَذَا ، أَوْ كَمَا قَالَ .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ هَكَذَا ؛ غَيْرَ مُحَقَّقَةٍ ، وَلَا مُنَزَّلَةٍ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ ، وَلَا عَلَى أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ .
وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِ طَرْفٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - بِحَوْلِ اللَّهِ - حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا لِمَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يُغَالِطْ نَفْسَهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
[ ص: 259 ] وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى
الْمَدِينَةِ ؛ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ مِمَّنْ كَانَ
بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ احْتَالَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَهَاجَرَ بِمَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَاسْتَعَانَ بِهِ لَمَّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ فِي حِرْفَتِهِ الَّتِي كَانَ يَحْتَرِفُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا -
nindex.php?page=showalam&ids=1كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ هَاجَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَكَانَ خَمْسَةَ آلَافٍ - ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلَاصِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ ، فَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ صِفْرَ الْيَدَيْنِ .
وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى
أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْعَمَلَ فِي حَوَائِطِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ مَعَهُمْ كَبِيرُ فَضْلٍ فِي الْعَمَلِ .
وَكَانَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ مَنْ أَشْرَكَهُمُ
الْأَنْصَارُ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ ؛ بِدَلِيلِ قِصَّةِ
بَنِي النَّضِيرِ ؛ فَإِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ قَالَ :
لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِيَ النَّضِيرِ ؛ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : " إِنْ شِئْتُمْ قَسَّمْتُهَا بَيْنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَتَرَكْتُمْ نَصِيبَكُمْ فِيهَا وَخَلَّى الْمُهَاجِرُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ عِيَالٌ عَلَيْكُمْ " ، فَقَالُوا : نَعَمْ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ أَعْطَى أَبَا دُجَانَةَ nindex.php?page=showalam&ids=3753وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ فَقُرَاءُ .
وَقَدْ قَالَ
الْمُهَاجِرُونَ أَيْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ ؛ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ - يَعْنِي :
الْأَنْصَارَ - ؛ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005310لَا ؛ مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ .
[ ص: 260 ] ( وَمِنْهُمْ ) مَنْ كَانَ يَلْتَقِطُ نَوَى التَّمْرِ ، فَيَرُضُّهَا ، وَيَبِيعُهَا عَلَفًا لِلْإِبِلِ ، وَيَتَقَوَّتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ .
( وَمِنْهُمْ ) مَنْ لَمْ يَجِدْ وَجْهًا يَكْتَسِبُ بِهِ لِقُوتٍ وَلَا لِسُكْنَى ، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
صُفَّةٍ كَانَتْ فِي مَسْجِدِهِ ، وَهِيَ
سَقِيفَةٌ كَانَتْ مِنْ جُمْلَتِهِ ، إِلَيْهَا يَأْوُونَ ، وَفِيهَا يَقْعُدُونَ ، إِذْ لَمْ يَجِدُوا مَالًا وَلَا أَهْلًا ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى إِعَانَتِهِمْ ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ .
وَقَدْ وَصَفَهُمْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، إِذْ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ ، وَهُوَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِمْ ؛ قَالَ فِي الصَّحِيحِ : " وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ ، لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةٌ ؛ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ ؛ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا ، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا " .
فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ ، وَحَكَمَ لَهُمْ - كَمَا تَرَى - بِحُكْمِ الْأَضْيَافِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الضِّيَافَةُ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْ نَزَلَ
بِالْبَادِيَةِ ؛ لَا يَجِدُ مَنْزِلًا وَلَا طَعَامًا لِشِرَاءٍ ، إِذْ لَمْ يَكُنْ
لِأَهْلِ الْوَبَرِ أَسْوَاقٌ يَنَالُ مِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ يُشْتَرَى ، وَلَا خَانَاتٌ يُأْوَى إِلَيْهَا ، فَصَارَ الضَّيْفُ مُضْطَرًّا وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ ، فَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْمَوْضِعِ ( ضِيَافَتُهُ وَإِيوَاؤُهُ ) حَتَّى يَرْتَحِلَ ، فَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ ؛ فَذَلِكَ أَحْرَى .
فَكَذَلِكَ
أَهْلُ الصُّفَّةِ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَنْزِلًا آوَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَجِدُوا ، كَمَا أَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا مَا يَقُوتُهُمْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِعَانَتِهِمْ .
[ ص: 261 ] وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=267يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ .
فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَوْصَافٍ ؛ مِنْهَا : أَنَّهُمْ أَحُصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ أَيْ : مُنِعُوا وَحُبِسُوا حِينَ قَصَدُوا الْجِهَادَ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَأَنَّ الْعُذْرَ أَحْصَرَهُمْ ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ؛ لِاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ وَلَا لِلْمَعَاشِ ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ كَانَ أَحَاطَ
بِالْمَدِينَةِ ، فَلَا هُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى يَكْسِبُوا مِنْ غَنَائِمِهِ ، وَلَا هُمْ يَتَفَرَّغُونَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلِضَعْفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، فَلَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْكَسْبِ أَصْلًا .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَصَارُوا زَمْنَى .
وَفِيهِمْ أَيْضًا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=8لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ .
أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ : أُخْرِجُوا ، وَلَمْ يَقُلْ : خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ؟ ! فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجُوا اخْتِيَارًا ، فَبَانَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا اضْطِرَارًا ، وَلَوْ وَجَدُوا سَبِيلًا ( أَنْ ) لَا يَخْرُجُوا ؛ لَفَعَلُوا ؟ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَالِ اخْتِيَارًا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ .
[ ص: 262 ] فَلِأَجْلٍ ذَلِكَ بَوَّأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الصُّفَّةَ ، فَكَانُوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا بَيْنَ طَالِبٍ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ -
nindex.php?page=showalam&ids=3كَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ فَإِنَّهُ قَصَرَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ : " وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي ، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا ، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا ؟ - ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَفَرَّغُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، فَإِذَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ غَزَا مَعَهُ ، وَإِذَا أَقَامَ ؛ أَقَامَ مَعَهُ .
حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، فَصَارُوا إِلَى مَا صَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَمَالٌ مِنْ طَلَبِ الْمَعَاشِ وَاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي حَبَسَهُمْ فِي الصُّفَّةِ قَدْ زَالَ ، فَرَجَعُوا إِلَى الْأَصْلِ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ .
فَالَّذِي حَصَلَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29407الْقُعُودَ فِي الصُّفَّةِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ ، وَلَا بِنَاءَ الصُّفَّةِ لِلْفُقَرَاءِ مَقْصُودًا ؛ بِحَيْثُ يُقَالُ : إِنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَلَا هِيَ رُتْبَةٌ شَرْعِيَّةٌ تُطْلَبُ ؛ بِحَيْثُ يُقَالُ : إِنَّ تَرْكَ الِاكْتِسَابِ وَالْخُرُوجَ عَنِ الْمَالِ وَالِانْقِطَاعَ إِلَى الزَّوَايَا يُشْبِهُ حَالَةَ
أَهْلِ الصُّفَّةِ ، وَهِيَ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا ؛ لِأَنَّهَا تَشَبُّهٌ
بِأَهْلِ صُفَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ . . . الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=28وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَةَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ ، بَلْ كَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
[ ص: 263 ] وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ
nindex.php?page=treesubj&link=29407بِالصُّفَّةِ لَمْ يَدُمْ ، وَلَمْ يُثَابِرْ أَهْلُهَا وَلَا غَيْرُهُمْ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهَا ، وَلَا عُمِّرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ ثُبُوتُ تِلْكَ الْحَالَةِ ؛ لَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِفَهْمِهَا أَوَّلًا ، ثُمَّ بِإِقَامَتِهَا وَالْمُكْثِ فِيهَا عَنْ كُلِّ شُغْلٍ ، وَأَوْلَى بِتَجْدِيدِ مَعَاهِدِهَا ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ .
فَالتَّشَبُّهُ
بِأَهْلِ الصُّفَّةِ إِذًا فِي إِقَامَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاتِّخَاذِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ لَا يَصِحُّ ، فَلْيَفْهَمِ الْمُوَفَّقُ هَذَا الْمَوْضِعَ ؛ فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِمَنْ لَمْ يَأْخُذْ دِينَهُ عَنِ السَّلَفِ الْأَقْدَمِينَ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ .
وَلَا يَظُنُّ الْعَاقِلُ أَنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْكَسْبِ وَلُزُومَ الرَّبْطِ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ أَوْ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ ، وَلَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا .
وَيَكْفِي الْمِسْكِينَ الْمُغْتَرَّ بِعَمَلِ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّ صُدُورَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ - الْمُتَّسِمِينَ
بِالصُّوفِيَّةِ - لَمْ يَتَّخِذُوا رِبَاطًا وَلَا زَاوِيَةً ، وَلَا بَنَوْا بِنَاءً يُضَاهُونَ بِهِ
الصُّفَّةَ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى التَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا ؛
nindex.php?page=showalam&ids=14919كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12358وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ ،
وَالْجُنَيْدِ ،
وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15166وَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ ،
وَالشِّبْلِيِّ . . . وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَابَقَ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ .
وَإِنَّمَا مَحْصُولُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَالَفُوا السَّلَفَ الصَّالِحَ ، وَخَالَفُوا شُيُوخَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي انْتَسَبُوا إِلَيْهَا ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ .
- وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=20403الْمَدَارِسُ ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ يُقَالُ فِي مِثْلِهِ : بِدْعَةٌ ؛
[ ص: 264 ] إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْرَأَ الْعِلْمُ إِلَّا بِالْمَسَاجِدِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ ، بَلِ الْعِلْمُ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ يُبَثُّ بِكُلِّ مَكَانٍ ؛ مِنْ مَسْجِدٍ ، أَوْ مَنْزِلٍ ، أَوْ سَفَرٍ ، أَوْ حَضَرٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، حَتَّى فِي الْأَسْوَاقِ ، فَإِذَا أَعَدَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَدْرَسَةً يُعِينُ بِإِعْدَادِهَا الطَّلَبَةَ ؛ فَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى إِعْدَادِهَا لَهَا مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِهِ ، أَوْ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِهِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَأَيْنَ مَدْخَلُ الْبِدْعَةِ هُاهُنَا ؟ !
وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْبِدْعَةَ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَالتَّخْصِيصُ هَاهُنَا لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ تَعْبُدِيٍّ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْيِينٌ بِالْحَبْسِ ؛ كَمَا تَتَعَيَّنُ سَائِرُ الْأَمْوَالِ الْمُحْبَسَةِ ، وَتَخْصِيصُهَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ .
بِخِلَافِ الرُّبْطِ ؛ فَإِنَّهَا خُصَّتْ تَشْبِيهًا
بِالصُّفَّةِ بِهِمَا لِلتَّعَبُّدِ ، فَصَارَتْ تَعَبُّدِيَّةً بِالْقَصْدِ وَالْعُرْفِ ، حَتَّى إِنَّ سَاكِنِيهَا مُبَايِنُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي النِّحْلَةِ وَالْمَذْهَبِ وَالزِّيِّ وَالِاعْتِقَادِ .
- وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ ؛ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى إِصْلَاحِ الطُّرُقِ ، وَإِزَالَةِ الْمَشَقَّةِ عَنْ سَالِكِيهَا ، وَلَهُ أَصْلٌ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ ، وَهُوَ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ فِي الْبِدَعِ بِحَالٍ .
- وَقَوْلُهُ : "
nindex.php?page=treesubj&link=20343_20385_20407وَكُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ " فِيهِ تَفْصِيلٌ ، فَلَا يَخْلُو الْإِحْسَانُ الْمَفْرُوضُ أَنْ يُفْهَمَ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ تَعَبُّدِيٍّ أَوَّلًا .
فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالتَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ .
[ ص: 265 ] وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ بِأَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ ؛ فَلَا يُقَالُ : إِنَّهُ غَيْرُ بِدْعَةٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ ؛ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَخْرُجَ أَصْلًا شَرْعِيًّا مِثْلَ الْإِحْسَانِ الْمُتْبَعِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالصَّدَقَةِ مِنَ الْمِدْيَانِ الْمَضْرُوبِ عَلَى يَدِهِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، ( وَ ) يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْصِيَةً .
وَالثَّانِي : أَنْ يَلْتَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَعَدَّى ؛ بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِالْتِزَامُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِدْعَةً مَذْمُومَةً وَضَلَالَةً ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَلَا تَكُونُ إِذًا مُسْتَحَبَّةً .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَجْرِيَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى وَغَيْرَهُ بِدْعَةً مَذْمُومَةً ؛ كَمَنْ كَرِهَ تَنْخِيلَ الدَّقِيقِ فِي الْعَقِيقَةِ ، فَلَا تَكُونُ عِنْدَهُ الْبِدْعَةُ مُبَاحَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً .
- وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا .
- وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29404الْكَلَامُ فِي دَقَائِقَ التَّصَوُّفِ ؛ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ بِإِطْلَاقٍ ، وَلَا هُوَ مِمَّا صَحَّ بِالدَّلِيلِ بِإِطْلَاقٍ ، بَلِ الْأَمْرُ يَنْقَسِمُ .
وَلَفْظُ التَّصَوُّفِ لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِهِ أَوَّلًا حَتَّى يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى أَمْرٍ مَفْهُومٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ عِنْدِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا قَالَ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ .
وَحَاصِلُ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لَفْظُ التَّصَوُّفِ عِنْدَهُمْ مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا : التَّخَلُّقُ بِكُلِّ خُلُقٍ سَنِيٍّ ، وَالتَّجَرُّدُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيٍّ .
[ ص: 266 ] وَالْآخَرُ : أَنَّهُ الْفَنَاءُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْبَقَاءُ لِرَبِّهِ .
وَهُمَا فِي التَّحْقِيقِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ؛ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ الْبِدَايَةِ وَالْآخِرَ يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ النِّهَايَةِ ، وَكِلَاهُمَا اتِّصَافٌ ؛ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُلْزِمُهُ الْحَالُ وَالثَّانِي يُلْزِمُهُ الْحَالُ ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا بِلَفْظٍ آخَرَ ؛ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ عَمَلًا تَكْلِيفِيًّا وَالثَّانِي نَتِيجَتَهُ ، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ اتِّصَافَ الظَّاهِرِ وَالثَّانِي اتِّصَافَ الْبَاطِنِ ، وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ التَّصَوُّفُ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ؛ فَالتَّصَوُّفُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا بِدْعَةَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى تَفَقُّهٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ : الْعَمَلُ ، وَتَفْصِيلُ آفَاتِهِ وَعَوَارِضِهِ ، وَأَوْجُهِ تَلَافِي الْفَسَادِ الْوَاقِعِ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ ، وَهُوَ فِقْهٌ صَحِيحٌ ، وَأُصُولُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ ، فَلَا يُقَالُ فِي مَثَلِهِ : بِدْعَةٌ ؛ إِلَّا إِذَا أَطْلَقَ عَلَى فُرُوعِ الْفِقْهِ الَّتِي لَمْ يُلْفَ مِثْلُهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ : أَنَّهَا بِدْعَةٌ ؛ كَفُرُوعِ أَبْوَابِ السَّلَمِ ، وَالْإِجَارَاتِ ، وَالْجِرَاحِ ، وَمَسَائِلِ السَّهْوِ ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَاتِ ، وَبُيُوعِ الْآجَالِ . . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُلَمَاءِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْبِدْعَةِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيمَا سَلَفَ ، وَإِنْ دَقَّتْ مَسَائِلُهَا ، فَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=29404_20343لَا يُطْلَقُ عَلَى دَقَائِقَ فُرُوعِ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ : أَنَّهَا بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَرْجِعُ إِلَى أُصُولٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي ؛ فَهُوَ عَلَى أَضْرُبٍ :
أَحَدُهَا : يَرْجِعُ إِلَى الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ عَلَى السَّالِكِينَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ نُورُ
nindex.php?page=treesubj&link=29416التَّوْحِيدِ الْوِجْدَانِيُّ ، فَيُتَكَلَّمُ فِيهَا بِحَسَبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي النَّازِلَةِ الْخَاصَّةِ ؛ رُجُوعًا إِلَى الشَّيْخِ الْمُرَبِّي ، وَمَا بَيَّنَ لَهُ فِي تَحْقِيقِ
[ ص: 267 ] مَنَاطِهَا بِفِرَاسَتِهِ الصَّادِقَةِ فِي السَّالِكِ بِحَسَبِهِ وَبِحَسَبِ الْعَارِضِ ، فَيُدَاوِيهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ ، أَوْ بِإِصْلَاحِ مَقْصِدِهِ إِنْ عَرَضَ فِيهِ الْعَارِضُ ، فَقَلَّمَا يَطْرَأُ الْعَارِضُ إِلَّا عِنْدَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُنِي عَلَيْهَا فِي بِدَايَتِهِ ، فَقَدْ قَالُوا : إِنَّمَا حُرِمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ .
فَمِثْلُ هَذَا لَا بِدْعَةَ فِيهِ ؛ لِرُجُوعِهِ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ :
فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005311أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ يَعْظُمُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ - أَوِ الْكَلَامُ بِهِ - مَا نُحِبُّ أَنَّ لَنَا وَأَنَّا تَكَلَّمْنَا بِهِ . قَالَ : " أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ " ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : " ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ " .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005312جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يَعْرِضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : " اللَّهُ أَكْبَرُ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ " .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005313 " مَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؟ فَلْيَقُلْ : آمَنْتُ بِاللَّهِ " .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005314 " إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ فَقُلْ : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . . . إِلَى أَشْبَاهِ
[ ص: 268 ] ذَلِكَ ، وَهُوَ صَحِيحٌ مَلِيحٌ .
وَالثَّانِي : يَرْجِعُ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28805_20343النَّظَرِ فِي الْكَرَامَاتِ ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا هُوَ خَارِقٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ غَيْرُ خَارِقٍ ، وَمَا هُوَ مِنْهَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ نَفْسِيٍّ أَوْ شَيْطَانِيٍّ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا . . . فَهَذَا النَّظَرُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ النَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّي ، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ .
وَالثَّالِثُ : مَا يَرْجِعُ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=20343النَّظَرِ فِي مُدْرَكَاتِ النُّفُوسِ ؛ مِنَ الْعَالِمِ الْغَائِبِ ، وَأَحْكَامِ التَّجْرِيدِ النَّفْسِيِّ ، وَالْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَالَمِ الْأَرْوَاحِ ، وَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ ، وَالنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَهُوَ بِلَا شَكٍّ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ إِنْ وَقَعَ النَّظَرُ فِيهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ جَعْلِهِ عِلْمًا يُنْظَرُ فِيهِ وَفَنًّا يُشْتَغَلُ بِتَحْصِيلِهِ بِتَعَلُّمٍ أَوْ رِيَاضَةٍ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَظَرٌ فَلْسَفِيٌّ ، إِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِجْلَابِهِ وَالرِّيَاضَةِ لِاسْتِفَادَتِهِ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ ، الْخَارِجُونَ عَنِ السُّنَّةِ ، الْمَعْدُودُونَ فِي الْفَرْقِ الضَّالَّةِ ، فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ مُبَاحًا ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ .
نَعَمْ ؛ قَدْ يَعْرِضُ مِثْلُهُ لِلسَّالِكِ ، فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ مَعَ الْمُرَبِّي ، حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْ طَرِيقِهِ ، وَيُبْعِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَرِيقِهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِمَالَةِ مَقْصِدِ السَّالِكِ إِلَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ؛ زِيَادَةً إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ بِتَتَبُّعِهِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ ، إِذِ الطَّرِيقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِخْلَاصِ التَّامِّ بِالتَّوَجُّهِ الصَّادِقِ ، وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَغْيَارِ ، وَفَتْحِ بَابِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الضَّرْبِ مُضَادٌّ لِذَلْكِ كُلِّهِ .
[ ص: 269 ] وَالرَّابِعُ : يَرْجِعُ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=20343_29555النَّظَرِ فِي حَقِيقَةِ الْفَنَاءِ مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِيهِ ، وَالِاتِّصَافُ بِأَوْصَافِهِ ، وَقَطْعُ أَطْمَاعِ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ جِهَةٍ تُوَصِّلُ إِلَى غَيْرِ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ دَقَّتْ ؛ فَإِنَّ أَهْوَاءَ النُّفُوسِ تَدُقُّ وَتَسْرِي مَعَ السَّالِكِ فِي الْمَقَامَاتِ ، فَلَا يَقْطَعُهَا إِلَّا مَنْ حَسَمَ مَادَّتَهَا وَبَتَّ طَلَاقَهَا ، وَهُوَ بَابُ الْفَنَاءِ الْمَذْكُورِ .
وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِقْهِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْبِدَعِ ؛ لِدُخُولِهِ تَحْتَ جِنْسِ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّهُ - وَإِنْ دَقَّ - رَاجِعٌ إِلَى مَا جَلَّ مِنَ الْفِقْهِ ، وَدِقَّتُهُ وَجِلَّتُهُ إِضَافِيَّانِ ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ .
وَثَمَّ أَقْسَامٌ أُخَرُ ؛ جَمِيعُهَا إِمَّا يَرْجِعُ إِلَى فِقْهِ شَرْعِيٍّ حَسَنٍ فِي الشَّرْعِ ، وَإِمَّا إِلَى ابْتِدَاعٍ لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ وَهُوَ قَبِيحٌ فِي الشَّرْعِ .
وَأَمَّا الْجَدَلُ وَجَمْعُ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ ؛ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=20424الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ ؛ فَعُدَّ مِنْهَا : زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ ، وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ ، وَتَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ أَلْفَاظُهُ عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ ، فَإِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ أَمْرٍ آخَرَ ؛ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَإِنْ أَرَادَ مَعَ اقْتِرَانِ قَصْدِ التَّشْرِيعِ ؛ فَصَحِيحٌ مَا قَالَ ، إِذِ الْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ بِدْعَةً إِلَّا مَعَ اقْتِرَانِ هَذَا الْقَصْدِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ ؛ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا غَيْرُ بِدَعٍ .
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=20423الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ ؛ فَعُدَّ مِنْهَا الْمُصَافَحَةُ عَقِبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ ، أَمَّا أَنَّهَا بِدَعٌ ؛ فَمُسَلَّمٌ ، وَأَمَّا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ ؛ فَمَمْنُوعٌ ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِهَا ، بَلْ هِيَ مَكْرُوهَةٌ ، إِذْ يُخَافُ
[ ص: 270 ] بِدَوَامِهَا إِلْحَاقُهَا [ بِـ ] الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ ؛ كَمَا خَافَ مَالِكٌ وَصْلَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بِرَمَضَانَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَعُدَّهَا مِنْ رَمَضَانَ ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ .
فَقَدْ قَالَ
الْقَرَافِيُّ : " قَالَ لِي
nindex.php?page=showalam&ids=16383الشَّيْخُ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُحَدِّثُ : إِنَّ الَّذِي خَشِيَ مِنْهُ
مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ ، فَصَارُوا يَتْرُكُونَ الْمُسَحِّرِينَ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَالْبَوَّاقِينَ وَشَعَائِرَ رَمَضَانَ إِلَى آخَرِ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ ، فَحِينَئِذٍ يُظْهِرُونَ شَعَائِرَ الْعِيدِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ شَاعَ عِنْدَ عَامَّةِ
مِصْرَ أَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ ؛ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ ؛ فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِمَامَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيَسْجُدُ ، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ رَكْعَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ .
قَالَ : " وَسَدُّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ مُتَعَيَّنٌ فِي الدِّينِ ، وَكَانَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ شَدِيدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا " .
وَعَدَّ
ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ nindex.php?page=treesubj&link=20423مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ التَّوَسُّعَ فِي الْمَلْذُوذَاتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِيهِ قَدْ وَضَحَ مِنْهُ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَنْقَسِمُ إِلَى ذَلِكَ الِانْقِسَامِ ، بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : إِمَّا كَرَاهَةً ، وَإِمَّا تَحْرِيمًا ؛ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ .