[ ص: 422 ] nindex.php?page=treesubj&link=28424والقرآن كلام الله ، وفيه الدعوة والحجة ، فله به اختصاص على غيره كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=654598ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .
nindex.php?page=treesubj&link=29568_28899والقرآن يظهر كونه آية وبرهانا له من وجوه : جملة وتفصيلا . أما الجملة ، فإنه قد علمت الخاصة والعامة من عامة الأمم ، علما متواترا أنه هو الذي أتى بهذا القرآن ، وتواترت بذلك الأخبار أعظم من تواترها بخبر كل أحد من الأنبياء والملوك والفلاسفة ، وغيرهم .
nindex.php?page=treesubj&link=18626والقرآن نفسه فيه تحدي الأمم بالمعارضة ، والتحدي هو أن يحدوهم : أي يدعوهم فيبعثهم إلى أن يعارضوه ، فيقال فيه : حداني على هذا الأمر : أي بعثني عليه ، ومنه سمي حادي العيس ؛ لأنه بحداه يبعثها على السير .
[ ص: 423 ] وقد يريد بعض الناس بالتحدي دعوى النبوة ، ولكنه أصله الأول ، قال تعالى : في سورة الطور :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) .
فهنا قال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) .
في أنه تقوله ، فإنه إذا كان
محمد قادرا على أن يتقوله كما يقدر الإنسان على أن يتكلم بما يتكلم به من نظم ونثر ، كان هذا ممكنا للناس ، الذين هم من جنسه ، فأمكن الناس أن يأتوا بمثله .
ثم إنه تحداهم بعشر سور مثله فقال تعالى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
ثم تحداهم بسورة واحدة منه فقال تعالى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=37وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
[ ص: 424 ] فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات هم وكل من استطاعوا من دون الله ، ثم تحداهم بسورة واحدة هم ومن استطاعوا ، قال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=14فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو ) .
وهذا أصل دعوته ، وهو الشهادة بأنه لا إله إلا الله ، والشهادة بأن
محمدا رسول الله .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=14فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) .
كما قال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=166لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ) .
أي : هو يعلم أنه منزل ، لا يعلم أنه مفترى ، كما قال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=37وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ) .
[ ص: 425 ] أي : ما كان لأن يفترى ، يقول : ما كان ليفعل هذا . فلم ينف مجرد فعله ، بل نفى احتمال فعله ، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع ، بل يمتنع وقوعه فيكون المعنى : ما يمكن ، ولا يحتمل ، ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله ، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق ، والمخلوق لا يقدر على ذلك . وهذا التحدي كان
بمكة ، فإن هذه السور مكية ؛ سورة يونس ، وهود ، والطور .
ثم أعاد التحدي في
المدينة بعد الهجرة ، فقال في ( البقرة ) وهي سورة مدنية :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
ثم قال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) .
فذكر أمرين :
أحدهما قوله :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار ) .
[ ص: 426 ] يقول : إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق ، فخافوا الله أن تكذبوه ، فيحيق بكم العذاب ، الذي وعد به المكذبين ، وهذا دعاء إلى سبيل ربه بالموعظة الحسنة ، بعد أن دعاهم بالحكمة ، وهو جدالهم بالتي هي أحسن .
والثاني قوله :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24ولن تفعلوا ) .
و ( لن ) لنفي المستقبل ، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان ، لا يأتون بسورة من مثله كما أخبر قبل ذلك ، وأمره أن يقول في سورة ( سبحان ) ، وهي سورة مكية ، افتتحها بذكر الإسراء ، وهو كان
بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر ، وذكر فيها من مخاطبته للكفار
بمكة ما يبين بذلك بقوله :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .
فعم بالخبر جميع الخلق معجزا لهم ، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم ، لا يأتون بمثل هذا القرآن ، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك ، وهذا التحدي والدعاء هو لجميع الخلق ، وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن وعرفه الخاص والعام ، وعلم - مع ذلك - أنهم لم يعارضوه ، ولا أتوا بسورة مثله ، ومن حين بعث ، وإلى اليوم ، الأمر على ذلك ، مع ما علم
[ ص: 427 ] من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث ، ولما بعث إنما تبعه قليل .
وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله ، مجتهدين بكل طريق يمكن ، تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور من الغيب ، حتى يسألوه عنها ، كما سألوه عن قصة
يوسف وأهل الكهف وذي القرنين كما تقدم . وتارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه ، وصاروا يضربون له الأمثال ، فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه ما مع ظهور الفرق . فتارة يقولون : مجنون . وتارة يقولون : ساحر . وتارة يقولون : كاهن . وتارة يقولون : شاعر . . . إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون - هم وكل عاقل سمعها - أنها افتراء عليه .
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة - مرة بعد مرة - وهي تبطل دعوته ، فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها ، فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة ، وجب وجود المقدور ، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض .
فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض ، عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة ، وبغير حيلة . وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى ، فإن هذا لم يأت أحد
[ ص: 428 ] بنظيره ، وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط ، أو نظمه وأسلوبه فقط ، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط ، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط ، ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط ، بل هو
nindex.php?page=treesubj&link=18626_28914_28910_28905آية بينة معجزة من وجوه متعددة : من جهة اللفظ ، ومن جهة النظم ، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته ، وغير ذلك .
ومن جهة معانيه ، التي أخبر بها عن الغيب الماضي ، وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية ، والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة ، كما قال تعالى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=89ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=54ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) .
وقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) .
[ ص: 429 ] وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن ، هو حجة على إعجازه ، ولا تناقض في ذلك ، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له .
ومن
nindex.php?page=treesubj&link=32431_32420أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام : إنه معجز بصرف الدواعي - مع تمام الموجب لها - أو بسلب القدرة التامة ، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما ، مثل قوله تعالى لزكريا :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=10آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) .
وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام . فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل ، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله ، فامتناعهم - جميعهم - عن هذه المعارضة ، مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة ، من أبلغ الآيات الخارقة للعادات ، بمنزلة من يقول : إني آخذ أموال جميع أهل
[ ص: 430 ] هذا البلد العظيم ، وأضربهم جميعهم ، وأجوعهم ، وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله ، أو إلى ولي الأمر ، وليس فيهم - مع ذلك - من يشتكي ، فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة .
ولو قدر أن واحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله ، أو قال شعرا ، يقدر أمثاله أن يقولوا مثله ، وتحداهم كلهم ، فقال : عارضوني ، وإن لم تعارضوني فأنتم كفار ، مأواكم النار ، ودماؤكم لي حلال ، امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد . فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة .
nindex.php?page=treesubj&link=28671_30394_30433والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم : أنا رسول الله إليكم جميعا ، ومن آمن بي دخل الجنة ، ومن لم يؤمن بي دخل النار ، وقد أبيح لي قتل رجالهم ، وسبي ذراريهم ، وغنيمة أموالهم ، ووجب عليهم كلهم طاعتي ، ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق ، ومن آياتي هذا القرآن ، فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله ، وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله .
فيقال : لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين .
فإن كانوا قادرين ، ولم يعارضوه ، بل صرف الله دواعي قلوبهم ، ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم ، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه ، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل :
[ ص: 431 ] معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب ، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد - فهذا من أبلغ الخوارق .
وإن كانوا عاجزين ، ثبت أنه خارق للعادة ، فثبت كونه خارقا على تقدير النقيضين ; النفي والإثبات . فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر .
فهذا غاية التنزل ، وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته ، لا يقدرون على ذلك ، ولا يقدر
محمد صلى الله عليه وسلم - نفسه - من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن ، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر ، كما قد أخبر الله به في قوله .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .
وأيضا فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة ، لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة ، ولو كانوا قادرين لعارضوه .
[ ص: 432 ] وقد انتدب غير واحد لمعارضته ، لكن جاء بكلام فضح به نفسه ، وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله ، مثل قرآن مسيلمة الكذاب ، كقوله : ( يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين ، رأسك في الماء ، وذنبك في الطين ) .
وكذلك - أيضا - يعرفون أنه لم يختلف حال قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه ، فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه .
وأيضا فلا نزاع بين العقلاء المؤمنين
بمحمد والمكذبين له ، إنه كان قصده أن يصدقه الناس ولا يكذبوه ، وكان - مع ذلك - من أعقل الناس وأخبرهم وأعرفهم بما جاء به ، ينال مقصوده ، سواء قيل : إنه صادق أو كاذب . فإن من دعا الناس إلى مثل هذا الأمر العظيم ، ولم يزل حتى استجابوا له طوعا وكرها ، وظهرت دعوته وانتشرت ملته هذا الانتشار ، هو من عظماء الرجال على أي حال كان . فإقدامه - مع هذا القصد - في أول الأمر وهو
بمكة ، وأتباعه قليل ، على أن يقول خبرا ، يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، لا في ذلك العصر ، ولا في سائر الأعصار
[ ص: 433 ] المتأخرة ، لا يكون إلا مع جزمه بذلك ، وتيقنه له ، وإلا فمع الشك والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فيفتضح فيرجع الناس عن تصديقه .
وإذا كان جازما بذلك - متيقنا له - لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله له بذلك . وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر . والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا ، فإنا نعلم ذلك وإن لم يكن علمنا بذلك خارقا للعادة ، ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم ، وإلا كان العلم جهلا ، فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه خارقا للعادة .
وأما التفصيل ، فيقال : نفس
nindex.php?page=treesubj&link=28914نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ، ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب ، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل ، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم ، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ، ليس له نظير في كلام جميع الخلق ، وبسط هذا وتفصيله طويل ، يعرفه من له نظر وتدبر .
[ ص: 434 ] ونفس ما أخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته ، أمر عجيب خارق للعادة ، لم يوجد مثل ذلك في كلام بشر ، لا نبي ولا غير نبي .
وكذلك ما أخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والجن وخلق آدم ، وغير ذلك ، ونفس ما أمر به القرآن من الدين ، والشرائع كذلك ، ونفس ما أخبر به من الأمثال ، وبينه من الدلائل هو - أيضا - كذلك .
nindex.php?page=treesubj&link=28914_28899_29568ومن تدبر ما صنفه جميع العقلاء في العلوم الإلهية والخلقية والسياسية وجد بينه وبين ما جاء في الكتب الإلهية - التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء - وجد بين ذلك وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظه ونظمه ، وبين سائر ألفاظ العرب ونظمهم .
فالإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه ، وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه . وما في التوراة والإنجيل : ولو قدر أنه مثل القرآن ، لا يقدح في المقصود ، فإن تلك كتب الله - أيضا - ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبي ، كما أتى
المسيح بإحياء الموتى ، وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره ؛ فكيف وليس ما في التوراة والإنجيل مماثلا
[ ص: 435 ] لمعاني القرآن ؛ لا في الحقيقة ولا في الكيفية ولا الكمية ، بل يظهر التفاوت لكل من تدبر القرآن وتدبر الكتب .
وهذه الأمور من ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ، ظهر له إعجازه من هذا الوجه ، ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي ، وإخباره بعجزهم ، فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد .
nindex.php?page=treesubj&link=29629ودلائل النبوة من جنس دلائل الربوبية ، فيها الظاهر البين لكل أحد ; كالحوادث المشهودة ; مثل خلق الحيوان والنبات والسحاب وإنزال المطر ، وغير ذلك ، وفيها ما يختص به من عرفه مثل دقائق التشريح ومقادير الكواكب وحركاتها ، وغير ذلك ، فإن الخلق كلهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق والإقرار برسله ، وما اشتدت الحاجة إليه في الدين والدنيا فإن الله يجود به على عباده جودا عاما ميسرا .
فلما كانت حاجتهم إلى النفس أكثر من حاجتهم إلى الماء ، وحاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الأكل ، كان سبحانه قد جاء بالهواء جودا عاما في كل مكان وزمان لضرورة الحيوان إليه ، ثم
[ ص: 436 ] الماء دونه ، ولكنه يوجد أكثر مما يوجد القوت وأيسر ؛ لأن الحاجة إليه أشد .
فكذلك دلائل الربوبية ، حاجة الخلق إليها في دينهم أشد الحاجات ، ثم دلائل النبوة ; فلهذا يسرها الله وسهلها أكثر مما لا يحتاج إليه العامة ، مثل تماثل الأجسام واختلافها ، وبقاء الأعراض أو فنائها ، وثبوت الجوهر الفرد أو انتفائه ، ومثل مسائل المستحاضة ، وفوات الحج وفساده ، ونحو ذلك مما يتكلم فيه بعض العلماء .
[ ص: 422 ] nindex.php?page=treesubj&link=28424وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ ، وَفِيهِ الدَّعْوَةُ وَالْحُجَّةُ ، فَلَهُ بِهِ اخْتِصَاصٌ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=654598مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29568_28899وَالْقُرْآنُ يَظْهَرُ كَوْنُهُ آيَةً وَبُرْهَانًا لَهُ مِنْ وَجُوهٍ : جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا . أَمَّا الْجُمْلَةُ ، فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَتِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مِنْ عَامَّةِ الْأُمَمِ ، عِلْمًا مُتَوَاتِرًا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ ، وَتَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ أَعْظَمَ مِنْ تَوَاتُرِهَا بِخَبَرِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْفَلَاسِفَةِ ، وَغَيْرِهِمْ .
nindex.php?page=treesubj&link=18626وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ فِيهِ تَحَدِّي الْأُمَمِ بِالْمُعَارَضَةِ ، وَالتَّحَدِّي هُوَ أَنْ يَحْدُوَهُمْ : أَيْ يَدْعُوَهُمْ فَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُ ، فَيُقَالُ فِيهِ : حَدَانِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ : أَيْ بَعَثَنِي عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ سُمِّي حَادِي الْعِيسِ ؛ لِأَنَّهُ بِحِدَاهُ يَبْعَثُهَا عَلَى السَّيْرِ .
[ ص: 423 ] وَقَدْ يُرِيدُ بَعْضُ النَّاسِ بِالتَّحَدِّي دَعْوَى النُّبُوَّةِ ، وَلَكِنَّهُ أَصْلُهُ الْأَوَّلُ ، قَالَ تَعَالَى : فِي سُورَةِ الطُّورِ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) .
فَهُنَا قَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) .
فِي أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ
مُحَمَّدٌ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَقَوَّلَهُ كَمَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ ، كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لِلنَّاسِ ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ جِنْسِهِ ، فَأَمْكَنَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ .
ثُمَّ إِنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فَقَالَ تَعَالَى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .
ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=37وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .
[ ص: 424 ] فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ هُمْ وَكُلُّ مَنِ اسْتَطَاعُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ هُمْ وَمَنِ اسْتَطَاعُوا ، قَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=14فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) .
وَهَذَا أَصْلُ دَعْوَتِهِ ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَالشَّهَادَةُ بِأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=14فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ) .
كَمَا قَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=166لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) .
أَيْ : هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ ، لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْتَرًى ، كَمَا قَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=37وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ) .
[ ص: 425 ] أَيْ : مَا كَانَ لِأَنْ يُفْتَرَى ، يَقُولُ : مَا كَانَ لِيَفْعَلَ هَذَا . فَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ فِعْلِهِ ، بَلْ نَفَى احْتِمَالَ فِعْلِهِ ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ ، بَلْ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى : مَا يُمْكِنُ ، وَلَا يُحْتَمَلُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَرَى هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فَإِنَّ الَّذِي يَفْتَرِيهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا التَّحَدِّي كَانَ
بِمَكَّةَ ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّوَرَ مَكِّيَّةٌ ؛ سُورَةَ يُونُسَ ، وَهُودٍ ، وَالطُّورِ .
ثُمَّ أَعَادَ التَّحَدِّي فِي
الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ فِي ( الْبَقَرَةِ ) وَهِيَ سُورَةٌ مَدَنِيَّةٌ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .
ثُمَّ قَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) .
فَذَكَرَ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ) .
[ ص: 426 ] يَقُولُ : إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ حَقٌّ ، فَخَافُوا اللَّهَ أَنْ تُكَذِّبُوهُ ، فَيَحِيقُ بِكُمُ الْعَذَابُ ، الَّذِي وَعَدَ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَهَذَا دُعَاءٌ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ بِالْحِكْمَةِ ، وَهُوَ جِدَالُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .
وَالثَّانِي قَوْلُهُ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24وَلَنْ تَفْعَلُوا ) .
وَ ( لَنْ ) لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ ، فَثَبَتَ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ ، لَا يَأْتُونَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ كَمَا أَخْبَرَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي سُورَةِ ( سُبْحَانَ ) ، وَهِيَ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ ، افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ الْإِسْرَاءِ ، وَهُوَ كَانَ
بِمَكَّةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ، وَذَكَرَ فِيهَا مِنْ مُخَاطَبَتِهِ لِلْكَفَّارِ
بِمَكَّةَ مَا يُبَيِّنُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) .
فَعَمَّ بِالْخَبَرِ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُعْجِزًا لَهُمْ ، قَاطِعًا بِأَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ ، لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ ، وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذَا التَّحَدِّي وَالدُّعَاءُ هُوَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَهَذَا قَدْ سَمِعَهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ وَعَرَفَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ ، وَعَلِمَ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُمْ لَمْ يُعَارِضُوهُ ، وَلَا أَتَوْا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَمِنْ حِينِ بُعِثَ ، وَإِلَى الْيَوْمِ ، الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ، مَعَ مَا عُلِمَ
[ ص: 427 ] مِنْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ ، وَلَمَّا بُعِثَ إِنَّمَا تَبِعَهُ قَلِيلٌ .
وَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِ ، مُجْتَهِدِينَ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ ، تَارَةً يَذْهَبُونَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أُمُورٍ مِنَ الْغَيْبِ ، حَتَّى يَسْأَلُوهُ عَنْهَا ، كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ قِصَّةِ
يُوسُفَ وَأَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَتَارَةً يَجْتَمِعُونَ فِي مَجْمَعٍ بَعْدَ مَجْمَعٍ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ فِيهِ ، وَصَارُوا يَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ ، فَيُشَبِّهُونَهُ بِمَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِمُجَرَّدِ شَبَهٍ مَا مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ . فَتَارَةً يَقُولُونَ : مَجْنُونٌ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : سَاحِرٌ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : كَاهِنٌ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : شَاعِرٌ . . . إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَعْلَمُونَ - هُمْ وَكُلُّ عَاقِلٍ سَمِعَهَا - أَنَّهَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ .
فَإِذَا كَانَ قَدْ تَحَدَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ - مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ - وَهِيَ تُبْطِلُ دَعْوَتُهُ ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا لَفَعَلُوهَا ، فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الدَّاعِي التَّامِّ الْمُؤَكَّدِ إِذَا كَانَتِ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً ، وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ ، ثُمَّ هَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ .
فَهَذَا الْقَدْرُ يُوجِبُ عِلْمًا بَيِّنًا لِكُلِّ أَحَدٍ بِعَجْزِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ ، عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ بِحِيلَةٍ ، وَبِغَيْرِ حِيلَةٍ . وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُكَرَّرُ جِنْسُهَا كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ
[ ص: 428 ] بِنَظِيرِهِ ، وَكَوْنُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِهَةِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَقَطْ ، أَوْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ فَقَطْ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ فَقَطْ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ صَرْفِ الدَّوَاعِي عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ سَلْبِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ ، بَلْ هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=18626_28914_28910_28905آيَةٌ بَيِّنَةٌ مُعْجِزَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ ، وَمِنْ جِهَةِ النَّظْمِ ، وَمِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى ، وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ ، الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنِ الْغَيْبِ الْمَاضِي ، وَعَنِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَمِنْ جِهَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمَعَادِ ، وَمِنْ جِهَةِ مَا بَيَّنَ فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ ، وَالْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=89وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ) .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=54وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ) .
وَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .
[ ص: 429 ] وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ مِنَ الْوُجُوهِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ ، هُوَ حُجَّةٌ عَلَى إِعْجَازِهِ ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ ، بَلْ كُلُّ قَوْمٍ تَنَبَّهُوا لِمَا تَنَبَّهُوا لَهُ .
وَمِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=32431_32420أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِصَرْفِ الدَّوَاعِي - مَعَ تَمَامِ الْمُوجِبِ لَهَا - أَوْ بِسَلْبِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ ، أَوْ بِسَلْبِهِمُ الْقُدْرَةَ الْمُعْتَادَةَ فِي مِثْلِهِ سَلْبًا عَامًّا ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=10آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) .
وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ قُلُوبَ الْأُمَمِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي التَّامِّ . فَإِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ وَالتَّنْزِيلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَامْتِنَاعُهُمْ - جَمِيعُهُمْ - عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ ، مَعَ قِيَامِ الدَّوَاعِي الْعَظِيمَةِ إِلَى الْمُعَارَضَةِ ، مِنْ أَبْلَغِ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : إِنِّي آخُذُ أَمْوَالَ جَمِيعِ أَهْلِ
[ ص: 430 ] هَذَا الْبَلَدِ الْعَظِيمِ ، وَأَضْرِبُهُمْ جَمِيعَهُمْ ، وَأُجَوِّعُهُمْ ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يَشْكُوا إِلَى اللَّهِ ، أَوْ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ، وَلَيْسَ فِيهِمْ - مَعَ ذَلِكَ - مَنْ يَشْتَكِي ، فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْعَجَائِبِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ .
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ وَاحِدًا صَنَّفَ كِتَابًا يَقْدِرُ أَمْثَالُهُ عَلَى تَصْنِيفٍ مِثْلِهِ ، أَوْ قَالَ شِعْرًا ، يَقْدِرُ أَمْثَالُهُ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ ، وَتَحَدَّاهُمْ كُلَّهُمْ ، فَقَالَ : عَارِضُونِي ، وَإِنْ لَمْ تُعَارِضُونِي فَأَنْتُمْ كُفَّارٌ ، مَأْوَاكُمُ النَّارُ ، وَدِمَاؤُكُمْ لِي حَلَالٌ ، امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ أَحَدٌ . فَإِذَا لَمْ يُعَارِضُوهُ كَانَ هَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْعَجَائِبِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28671_30394_30433وَالَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ قَالَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ، وَمَنْ آمَنَ بِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي دَخَلَ النَّارَ ، وَقَدْ أُبِيحَ لِي قَتْلُ رِجَالِهِمْ ، وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ ، وَغَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ طَاعَتِي ، وَمَنْ لَمْ يُطِعْنِي كَانَ مِنْ أَشْقَى الْخَلْقِ ، وَمِنْ آيَاتِي هَذَا الْقُرْآنُ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ ، وَأَنَا أُخْبِرُكُمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يَأْتِي بِمِثْلِهِ .
فَيُقَالُ : لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَادِرِينَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ أَوْ عَاجِزِينَ .
فَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ ، وَلَمْ يُعَارِضُوهُ ، بَلْ صَرَفَ اللَّهُ دَوَاعِي قُلُوبِهِمْ ، وَمَنَعَهَا أَنْ تُرِيدَ مُعَارَضَتَهُ مَعَ هَذَا التَّحَدِّي الْعَظِيمِ ، أَوْ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ قَبْلَ تَحَدِّيهِ ، فَإِنَّ سَلْبَ الْقُدْرَةِ الْمُعْتَادَةِ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ :
[ ص: 431 ] مُعْجِزَتِي أَنَّكُمْ كُلُّكُمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْمُعْتَادِ كَإِحْدَاثِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ - فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْخَوَارِقِ .
وَإِنْ كَانُوا عَاجِزِينَ ، ثَبَتَ أَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ، فَثَبَتَ كَوْنُهُ خَارِقًا عَلَى تَقْدِيرِ النَّقِيضَيْنِ ; النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . فَثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْعَجَائِبِ النَّاقِضَةِ لِلْعَادَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
فَهَذَا غَايَةُ التَّنَزُّلِ ، وَإِلَّا فَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَقْدِرُ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسُهُ - مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ، بَلْ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ سَائِرِ كَلَامِهِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَدَبُّرٍ ، كَمَا قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) .
وَأَيْضًا فَالنَّاسُ يَجِدُونَ دَوَاعِيَهِمْ إِلَى الْمُعَارَضَةِ حَاصِلَةً ، لَكِنَّهُمْ يُحِسُّونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْعَجْزَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ ، وَلَوْ كَانُوا قَادِرِينَ لَعَارَضُوهُ .
[ ص: 432 ] وَقَدِ انْتَدَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِمُعَارَضَتِهِ ، لَكِنْ جَاءَ بِكَلَامٍ فَضَحَ بِهِ نَفْسَهُ ، وَظَهَرَ بِهِ تَحْقِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ عَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، مِثْلَ قُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ ، كَقَوْلِهِ : ( يَا ضُفْدَعُ بِنْتَ ضُفْدَعِينَ ، نِقِّي كَمْ تَنِقِّينَ ، لَا الْمَاءَ تُكَدِّرِينَ ، وَلَا الشَّارِبَ تَمْنَعِينَ ، رَأْسُكِ فِي الْمَاءِ ، وَذَنَبُكِ فِي الطِّينِ ) .
وَكَذَلِكَ - أَيْضًا - يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ قُدْرَتِهِمْ قَبْلَ سَمَاعِهِ وَبَعْدَ سَمَاعِهِ ، فَلَا يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ عَاجِزِينَ عَمَّا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ كَمَا وَجَدَ زَكَرِيَّا عَجْزَهُ عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
بِمُحَمَّدٍ وَالْمُكَذِّبِينَ لَهُ ، إِنَّهُ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ النَّاسُ وَلَا يُكَذِّبُوهُ ، وَكَانَ - مَعَ ذَلِكَ - مِنْ أَعْقَلِ النَّاسِ وَأَخْبَرِهِمْ وَأَعْرَفِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ ، يَنَالُ مَقْصُودَهُ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّهُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ . فَإِنَّ مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا ، وَظَهَرَتْ دَعْوَتُهُ وَانْتَشَرَتْ مِلَّتُهُ هَذَا الِانْتِشَارَ ، هُوَ مِنْ عُظَمَاءِ الرِّجَالِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ . فَإِقْدَامُهُ - مَعَ هَذَا الْقَصْدِ - فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَهُوَ
بِمَكَّةَ ، وَأَتْبَاعُهُ قَلِيلٌ ، عَلَى أَنْ يَقُولَ خَبَرًا ، يَقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، لَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ، وَلَا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ
[ ص: 433 ] الْمُتَأَخِّرَةِ ، لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ جَزْمِهِ بِذَلِكَ ، وَتَيَقُّنِهِ لَهُ ، وَإِلَّا فَمَعَ الشَّكِّ وَالظَّنِّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ فَيَفْتَضِحَ فَيَرْجِعَ النَّاسُ عَنْ تَصْدِيقِهِ .
وَإِذَا كَانَ جَازِمًا بِذَلِكَ - مُتَيَقِّنًا لَهُ - لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ إِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ . وَلَيْسَ فِي الْعُلُومِ الْمُعْتَادَةِ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ كَلَامِهِ إِلَّا إِذَا عَلِمَ الْعَالَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ . وَالْعِلْمُ بِهَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مُعْجِزًا ، فَإِنَّا نَعْلَمُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمُنَا بِذَلِكَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ ثُبُوتُ الْمَعْلُومِ ، وَإِلَّا كَانَ الْعِلْمُ جَهْلًا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ .
وَأَمَّا التَّفْصِيلُ ، فَيُقَالُ : نَفْسُ
nindex.php?page=treesubj&link=28914نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ عَجِيبٌ بَدِيعٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِنَظِيرِ هَذَا الْأُسْلُوبِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ وَلَا الرَّجَزِ وَلَا الْخَطَابَةِ وَلَا الرَّسَائِلِ ، وَلَا نَظْمُهُ نَظْمُ شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ ، وَنَفْسُ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ هَذَا عَجِيبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ، لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَبَسْطُ هَذَا وَتَفْصِيلُهُ طَوِيلٌ ، يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ نَظَرٌ وَتَدَبُّرٌ .
[ ص: 434 ] وَنَفْسُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي بَابِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، أَمْرٌ عَجِيبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ، لَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ بَشَرٍ ، لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ .
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجِنِّ وَخَلْقِ آدَمَ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَنَفْسُ مَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الدِّينِ ، وَالشَّرَائِعِ كَذَلِكَ ، وَنَفْسُ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ ، وَبَيَّنَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ هُوَ - أَيْضًا - كَذَلِكَ .
nindex.php?page=treesubj&link=28914_28899_29568وَمَنْ تَدَبَّرَ مَا صَنَّفَهُ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ فِي الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَجَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ - التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ - وَجَدَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّفَاوُتِ أَعْظَمَ مِمَّا بَيْنَ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ ، وَبَيْنَ سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ وَنَظْمِهِمْ .
فَالْإِعْجَازُ فِي مَعْنَاهُ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ مِنَ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ ، وَجَمِيعُ عُقَلَاءِ الْأُمَمِ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَعَانِيهِ أَعْظَمَ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ لَفْظِهِ . وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ : وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ ، لَا يُقْدَحُ فِي الْمَقْصُودِ ، فَإِنَّ تِلْكَ كُتُبُ اللَّهِ - أَيْضًا - وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْتِيَ نَبِيٌّ بِنَظِيرِ آيَةِ نَبِيٍّ ، كَمَا أَتَى
الْمَسِيحُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَقَدْ وَقَعَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى عَلَى يَدِ غَيْرِهِ ؛ فَكَيْفَ وَلَيْسَ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُمَاثِلًا
[ ص: 435 ] لِمَعَانِي الْقُرْآنِ ؛ لَا فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي الْكَيْفِيَّةِ وَلَا الْكَمِّيَّةِ ، بَلْ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ لِكُلِّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَ الْكُتُبَ .
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَنْ ظَهَرَتْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ، ظَهَرَ لَهُ إِعْجَازُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ اكْتَفَى بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَظْهَرُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ كَعَجْزِ جَمِيعِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ تَحَدِّي النَّبِيِّ ، وَإِخْبَارِهِ بِعَجْزِهِمْ ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ .
nindex.php?page=treesubj&link=29629وَدَلَائِلُ النُّبُوَّةِ مِنْ جِنْسِ دَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ ، فِيهَا الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ ; كَالْحَوَادِثِ الْمَشْهُودَةِ ; مِثْلِ خَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالسَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَفِيهَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ مِثْلُ دَقَائِقِ التَّشْرِيحِ وَمَقَادِيرِ الْكَوَاكِبِ وَحَرَكَاتِهَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ وَالْإِقْرَارِ بِرُسُلِهِ ، وَمَا اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يَجُودُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ جُودًا عَامًّا مُيَسَّرًا .
فَلَمَّا كَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى النَّفْسِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَاءِ ، وَحَاجَتُهُمْ إِلَى الْمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْأَكْلِ ، كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَاءَ بِالْهَوَاءِ جُودًا عَامًّا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ لِضَرُورَةِ الْحَيَوَانِ إِلَيْهِ ، ثُمَّ
[ ص: 436 ] الْمَاءُ دُونَهُ ، وَلَكِنَّهُ يُوجَدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ الْقُوتُ وَأَيْسَرَ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ أَشَدُّ .
فَكَذَلِكَ دَلَائِلُ الرُّبُوبِيَّةِ ، حَاجَةُ الْخَلْقِ إِلَيْهَا فِي دِينِهِمْ أَشَدُّ الْحَاجَاتِ ، ثُمَّ دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ ; فَلِهَذَا يَسَّرَهَا اللَّهُ وَسَهَّلَهَا أَكْثَرَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَامَّةُ ، مِثْلُ تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَاخْتِلَافِهَا ، وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ أَوْ فَنَائِهَا ، وَثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَوِ انْتِفَائِهِ ، وَمِثْلُ مَسَائِلِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَفَوَاتِ الْحَجِّ وَفَسَادِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ .