[ ص: 46 ] ومما محمد صلى الله عليه وسلم أن من دعا إلى مثل ما دعا إليه لا يخلو من ثلاثة أقسام : إما أن يكون نبيا صادقا مرسلا من الله كما أخبر عن نفسه ، بمنزلة يبين أمر نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وداود ، وسليمان ، وغيرهم من الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ، وإما أن يكون ملكا مسلما عادلا ، وضع ناموسا سياسيا [ ص: 47 ] وقانونا عدليا ينفع به الخلق ، ويحملهم به على السيرة العادلة بمبلغ علمه ، كما كان للأمم من يضع لهم النواميس مثل واضعي النواميس من اليونان ، والهند ، والفرس ، وغيرهم . وإن كان واضع الناموس مختصا بقوة قدسية ينال بها العلم بسهولة ، وقوة نفسية يتصرف فيها تصرفات خارجة عن العادة ، ويكون له قوة تخييلية تمثل له في نفسه أشكالا نورانية ، وأصواتا يسمعها في داخل نفسه ، فإن هذه الخواص الثلاثة هي التي يقول وأمثاله من المتفلسفة : إنها خواص النبي ، ومن قامت به كان نبيا ، والنبوة مكتسبة عندهم . ولكن لما كانت هذه موجودة لكثير من الخلق ، ولم يصل بها إلى قريب من درجة الصديقين - أتباع الأنبياء - ابن سينا ، كالخلفاء الراشدين ، وحواريي عيسى ، وأصحاب موسى جعلناها من هذا القسم ؛ إذ صاحب هذا قد يكون فيه عدل وسياسة بحسب ما معه من العلم والعدل ، فهذا القسم الثاني . وإما أن يكون رجلا كاذبا فاجرا أفاكا أثيما يتعمد الكذب والظلم ، أو يتكلم بلا علم فيخطئ خطأ من يتكلم بلا علم . ومن يظن الكذب صدقا والباطل حقا ، والضلال هدى ، والغي [ ص: 48 ] رشدا ، والظلم عدلا ، والفساد صلاحا ، وكل من دعا الخلق إلى متابعته ، وطاعته على سبيل الحتم والإيجاب بأن يصدقوه بما أخبر ، ويطيعوه فيما أمر به ، وأوجبه باطنا وظاهرا من غير أن يخير أحدا في اتباعه وتصديقه وطاعته ، ولا يسوغ له مخالفته بوجه من الوجوه لا في الباطن ولا في الظاهر ، لم يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة . وذلك لأنه إما أن يكون قصده الإثم والعدوان ، أو قصده البر والعدل ، فإن كان قصده الأول فهو ظالم فاجر ، ومثل هذا لا يكون إلا كاذبا عمدا أو خطأ ، وإن كان قصده البر والعدل ، فيخلو مع ذلك إما أن يكون عالما بكل ما يخبر به من الغيوب جازما بصدق نفسه جزما لا يحتمل النقيض ، عالما بأن ما يأمر به عدل ، لا يجوز لمن أمره أن يعصيه بوجه من الوجوه ، وإما أن لا يكون جازما بذلك . فإن كان جازما بذلك كان هذا هو النبي المعصوم الذي لا يخبر إلا بحق ، ولا يأمر إلا بعدل : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم بخلاف القسم الذي يتحرى العدل ، والصدق باجتهاده ورأيه ، فإن [ ص: 49 ] هذا قد يأمر بأشياء يجوز أن تكون المصلحة والعدل والصدق في خلافها ، ويخبر بأشياء باجتهاده ، يحوز أن يكون الأمر فيها بخلاف ذلك ، ولا بد أن يغلط في بعض ما يخبر به من العلميات ، وما يأمرهم به من العمليات فإنه لا معصوم إلا الأنبياء ، ولهذا لم يجب الإيمان بكل ما يقوله بشر . إلا أن يكون نبيا ، فإن قال تعالى : الإيمان واجب بكل ما يأتي به النبي . قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، وقال تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم بالتواتر أن محمدا ذكر أنه رسول [ ص: 50 ] كإبراهيم ، وموسى ، وعيسى بل أخبر أنه آدم ، وأن آدم فمن دونه تحت لوائه يوم القيامة ، وأنه لما أسري به ، وعرج إلى ربه علا على الأنبياء كلهم ، على سيد ، ولد إبراهيم ، وموسى ، وهارون ، ويحيى ، وعيسى ، وغيرهم ، وأخبر أنه لا نبي بعده ، وأن أمته هم الآخرون في الخلق السابقون يوم القيامة ، وأن الكتاب الذي أنزل إليه أحسن الحديث ، وأنه مهيمن على ما بين يديه من الكتب مع تصديقه لذلك ، وحينئذ فإن كان عالما بصدق نفسه فهو نبي رسول ، ومن قال هذا القول وهو يعلم أنه كاذب فهو من أظلم الناس وأفجرهم : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، وإن كان يظن صدق نفسه وليس كذلك ، فهو مخطئ غالط ملبوس عليه ، وإذا كان كذلك فلا بد أن يخطئ فيما يخبر به من الغيوب ، ويظلم فيما يأمر به من العدل ، ولا يتصور استمراره على هذا بل لا بد أن يتبين له ، ولغيره أنه صادق أو كاذب . فإن ، وأبعدهم عن التمييز بين الحق والباطل ، والصدق والكذب ، والخير والشر ، فإن هذا بمنزلة من اشتبه عليه النبي الصادق بالمتنبي الكذاب ، وهذا من أجهل الناس . إذا اشتبه عليه حال غيره فكيف بمن اشتبه عليه حال نفسه ولم يعلم ما يقوله أصدق هو أم كذب ؟ ومن كان جاهلا مع هذه الدعوى العظيمة ، التي لم يدع بشر مثلها ، ومع كثرة ما يخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة ، ويأمر به وينهى عنه من الأمور الكلية والسنن العامة والشرائع والنواميس ، فلا بد أن يكون فيها من الضلال والغي ما يبين لأكثر الخلق . فإذا كانت أخباره عن الماضي والمستقبل يصدق بعضها بعضا ، والذي يأمر به هو الطريق الأقوم ، من ظن صدق نفسه في مثل هذه الدعوى ، وليس بصادق [ ص: 51 ] يكون من أجهل الناس وأظلمهم ، قال تعالى : والكتاب الذي جاء به كتاب متشابه مثاني ، يشبه بعضه بعضا في الصدق أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ ص: 52 ] فإنه لو كان من عند غير الله لوجب أن يكون فيه تناقض ، لامتناع قدرة البشر على أن تخبر بهذه الأخبار ، وما فيها من الغيوب ، ويأمر بهذه الأوامر مع سلامة ذلك من التناقض ، ولهذا لا يوجد بشر غير نبي يسلم من ذلك . وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد علم بالاضطرار من سيرته أنه كان يتحرى الصدق والعدل ، وأنه ما جربت عليه كذبة قط ، وعلم أنه كان جازما بما يخبر به مع عظم الأخبار وكثرتها ، وهو وحده قام يدعو الناس إلى ما جاء به ، ومن عادة طالب الملك والرياسة - ولو كان عادلا - أن يستعين بمن يعينه كأقاربه وأصدقائه ونحوهم ، وأن يبذل للنفوس من العاجل ما يرغبها به كالمال والرياسة ، ويرهب من خالفه . ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا الناس وحده وهو بمكة ، فآمن به المهاجرون ثم آمن به الأنصار بالمدينة ، ثم آمن به أهل البحرين ، ولم يعط أحدا منهم درهما ، ولا كان معه ما يخيفهم به ، لا سيف ولا غيره ، بل مكث بمكة بضع عشرة سنة ، هو والمؤمنون به مستضعفين ، لم يكن له مال يبذله لهم ، ولا سيف يخيفهم به . [ ص: 53 ] وكان أعظم من آمن به مع كمال عقله وخلقه ، ودينه في قومه ، ومحبتهم له ، وعلو قدره فيهم ، أنفق ماله كله في سبيل الله حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أبو بكر الصديق ما تركت لأهلك ؟ قال : تركت لهم الله ورسوله ، ولم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم درهما واحدا يخصه به ، ثم تولى الأمر بعده وترك ما كان معه للمسلمين ، وتولى بعده وفتح أعظم ممالك العالم ، مملكة عمر بن الخطاب ، فارس ، والروم فقهر الروم على بلاد الشام ، والجزيرة ، ومصر . وأميره الكبير أزهد الخلق في الأموال وأعبدهم للخالق ، وأرحمهم للمخلوق ، وأبعدهم عن هوى النفس ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : أبو عبيدة أبو عبيدة بن الجراح وأميره على إن لكل أمة أمينا ، وأمين هذه [ ص: 54 ] الأمة فارس الذي كان مستجاب الدعوة ، وكان من أزهد الناس ، وكان آخر من بقي من أهل الشورى ، والناس يتنازعون في الولاية ، وهو معتزل في قصره سعد بن أبي وقاص بالعقيق لا يزاحم أحدا ، فقال له ابنه تركت الناس يتنازعون الملك وجلست ههنا ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عمر : . إن الله يحب العبد التقي الغني النقي الخفي