[ ص: 40 ] وأما من قال : إنه غير بعض ألفاظها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء . يقولون : إنه كان في التوراة والإنجيل وغيرهما ألفاظ صريحة بأمور
منها اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه عمد بعض أهل الكتاب فغيروا بعض الألفاظ في النسخ التي كانت عندهم .
لا يقولون : إن هؤلاء غيروا كل نسخة كانت على وجه الأرض لكن غيروا بعض ألفاظ النسخ وكتب الناس من تلك النسخ المغيرة نسخا كثيرة انتشرت فصار أكثر ما يوجد عند كثير من أهل الكتاب هو من تلك النسخ المغيرة .
وفي العالم نسخ أخرى لم تغير فذكر كثير من الناس أنه رآها وقرأها وفي تلك النسخ ما ليس في النسخ الأخرى ومما يدل على ذلك أنك في هذا الزمان إذا أخذت نسخ التوراة الموجودة عند اليهود والنصارى والسامرة وجدت بينهما اختلافا في مواضع متعددة .
وكذلك نسخ الإنجيل ، وكذلك نسخ الزبور مختلفة اختلافا متباينا بحيث لا يعقل العاقل أن جميع نسخ التوراة الموجودة متفقة على لفظ [ ص: 41 ] واحد ، ولا يعلم أن جميع نسخ الإنجيل متفقة على لفظ واحد ، ولا يعلم أن جميع نسخ الزبور متفقة على لفظ واحد فضلا عن سائر النبوات .
ومعلوم أنه . لا يمكن أهل الكتاب إقامة حجة على أن جميع النسخ بجميع اللغات في زوايا الأرض متفقة على لفظ واحد في جميع ما هو موجود من جميع النبوات والحجة التي احتجوا بها على تعذر تغييرها كلها تدل على تعذر العلم بتساويها كلها
فإذا قالوا : فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا ، ومن هو الذي حكم على الدنيا كلها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض ( حتى يغيرها .
قيل لهم : ومن الذي يعلم اثنين وسبعين لغة ومن هو الذي حكم على الدنيا ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض ) وأحضر كل نسخة موجودة في جميع الأرض وقابل كل نسخة ( موجودة في جميع الأرض ) بجميع النسخ فوجد جميع ألفاظ جميع النسخ التي باثنين وسبعين لسانا من جميع أقطار الأرض لفظا متفقا ، لم يختلف ألفاظها .
فإن دعوى العلم بهذا ممتنع أعظم من امتناع دعوى تغييرها ، فإنه [ ص: 42 ] إن أمكن أحدا أن يجمع جميع النسخ كانت قدرته على تغيير بعض ألفاظها كلها أيسر عليه من مقابلة كل ما في نسخة بجميع ما في سائر النسخ .
فإنا إذا أحضرنا بكتاب من الكتب عشر نسخ كان تغيير بعض ألفاظ العشرة أيسر علينا من مقابلة كل واحد من العشرة بالتسعة الباقية إذ المقابلة يحتاج فيها إلى معرفة جميع ألفاظ كل نسخة ومساواتها للأخرى .
وأما التغيير فيكفي فيه أن يغير من كل نسخة ما يغيره من الأخرى فإن كان تغيير جميع النسخ ممتنعا في العادة فالعلم باتفاقها أشد امتناعا ، وإن كان العلم باتفاقها ممكنا ، فإمكان تغيير بعض ألفاظها أيسر وأيسر .
وأما قولهم إن قيل : إنه غير بعضها وترك بعضها ، فهذا لا يمكن أن يكون لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن .
فيقال : أما إمكان قول هذا فظاهر لا ينازع فيه عاقل ، وهو واقع فإنا قد رأينا التوراة التي عند السامرة تخالف توراة اليهود والنصارى ( حتى في العشر الكلمات .
فذكر السامرة فيها من أمر استقبال الطور ما لا يوجد في نسخ اليهود والنصارى ) وكذلك بين نسخ اليهود والنصارى اختلاف [ ص: 43 ] معروف ونسخ الإنجيل مختلفة ، ونسخ الزبور مختلفة اختلافا أكثر من ذلك ، وبكل حال فلا يقدر عاقل أن يقول : يمتنع تغيير بعض النسخ .
ولكن إذا قالوا لم يغير شيء منها لأن جميعها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن كانت هذه الدعوى باطلة من وجهين .
أحدهما : أن دعوى العلم بتساوي جميع النسخ أبلغ من دعوى إمكان تغييرها ، فإن كان التغيير ممتنعا على جميعها كان علم الواحد بما في جميعها - وأنها متماثلة الألفاظ مع اختلاف الألسن - أولى بالامتناع .
الثاني : أن هذا دعوى خلاف الواقع ، فإن الاختلاف في نسخ التوراة والإنجيل والزبور موجود قد رأيناه نحن بأعيننا ، ورآه غيرنا ، فرأيت عدة نسخ بالزبور يخالف بعضها بعضا اختلافا كثيرا ورأينا بعض ألفاظ التوراة التي ينقلها هذه الطائفة وهي مكتوبة عندهم يدعون أنها هي التوراة الصحيحة المنقولة عندهم بالتواتر تخالف بعض ألفاظ توراة الطائفة الأخرى ، وكذلك الإنجيل .
وبالجملة قولهم : هذا لا يمكن أن يكون ؛ لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن ، تضمن شيئين :
تضمن دعوى كاذبة ، وحجة باطلة ، فإن قولهم : ( هذا لا يمكن ) مكابرة ظاهرة ، فإن إمكان تغيير بعض النسخ مما لا ينازع عاقل في إمكانه ، لكن قد يقول القائل : إذا غير بعض النسخ وأظهر ذلك ، شاع [ ص: 44 ] ذلك فرأى سائر أهل النسخ تلك النسخة مغايرة لنسخهم فأنكروه ، فإن الهمم والدواعي متوفرة على إنكار ذلك ، كما يوجد اليوم مثل ذلك لو أراد رجل أن يغير كتابا مشهورا عند الناس ، به نسخ متعددة ، فإذا غيره فوصلت تلك النسخة إلى من يعرف ما في تلك النسخ أنكروا ذلك .
فيقال : هذا يمكن إذا كانت تلك النسخة المغيرة وصلت إلى طائفة يمتنع عليهم مواطأتهم على الكذب فإنه كما يمتنع في الأخبار المتواترة التواطؤ على الكذب ، فيمتنع التواطؤ على كتمان ما يتعذر كتمانه في العادة .
ومعلوم أنه لا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ ، والنسخ إنما هي موجودة عند علماء أهل الكتاب وليس عامتهم يحفظ ألفاظها كما يحفظ عوام المسلمين ألفاظ القرآن فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك ، ثم إذا تواطأت طائفة أخرى على أن لا يذكروا ذلك أمكن ذلك ، ولكن إذا كانت الطوائف ممن لا يمكن تواطؤها على الكذب أو الكتمان امتنع ذلك فيهم .
وقد رأينا عند أهل الكتاب كتبا يدعون أنها عندهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - بخط فيها أمور تتعلق بأغراضهم ، وقد التبس أمرها على كثير من المسلمين ، وعظموا ما فيها وأعطوا أهل الكتاب ما كتب لهم فيها معتقدين أنهم ممتثلين ما فيها [ ص: 45 ] فلما وصلت إلى من وصلت إليه من علماء المسلمين بينوا كذبها بطرق معلومة بالتواتر ، مثل ذكرهم فيها : شهد بما فيها علي بن أبي طالب ، الحبر على النبي - صلى الله عليه وسلم - يعنون كعب بن مالك . كعب الأحبار
وكعب الأحبار إنما أسلم على عهد لم يدرك النبي واسمه عمر بن الخطاب ولكن في كعب بن ماتع ، الأنصار الشاعر الذي أنزل الله توبته في سورة ( براءة ) ، فظن هؤلاء الجهال أن هذا هو ذاك . كعب بن مالك
ومثل ذكرهم شهادة الذي اهتز لموته عرش الرحمن ، ذكروا شهادته عام سعد بن معاذ خيبر ، وقد اتفق أهل العلم أنه مات [ ص: 46 ] عقب غزوة الخندق قبل غزوة خيبر بمدة ، وأمثال ذلك .
وأما حجتهم الداحضة ؟ وإنه علم أن كل نسخة من النبوات الأربعة وعشرين بأحد الألسنة الاثنين وسبعين موافقة لكل نسخة في سائر الألسنة ، ولو ادعى مدع أن كل نسخة من التوراة في العالم باللسان العربي ( أو كل نسخة من الإنجيل في العالم باللسان العربي ) أو كل نسخة في العالم من الزبور باللسان العربي موافقة لجميع النسخ العربية الموجودة في زوايا العالم لكان قد ادعى ما لا يعلمه ولا يمكنه علمه ، فمن أين له ذلك ؟ فقولهم : إن جميع كتب النبوات التي في العالم من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات موجودة باثنين وسبعين لسانا ، بلفظ واحد وقول واحد ، فهل يقول عاقل من العقلاء إنه علم ذلك
وهل رأى كل نسخة عربية بهذه الكتب ، أو أخبره من يعلم صدقه أن جميع النسخ العربية الموجودة في العالم موافقة لهذه النسخة ؟
وكذلك إذا ادعى ذلك في اللسان اليوناني ، والسرياني ، والرومي ، [ ص: 47 ] والعبراني ، والهندي ، فإن كان في العالم بكل كتاب من هذه اثنان وسبعون لسانا فدعوى اتفاق نسخ كل لسان من جنس دعوى اتفاق النسخ العربية ، فكيف إذا ادعى اتفاق النسخ بجميع الألسنة ؟
وهب أنه يمكن أن يقال ذلك في نسخ لسان نقلها أهله ، والناطقون به ، فكيف يمكن دعواه في لسان كثر الناطقون به وانتشر أهله ؟
وليس هذا كدعوى اتفاق مصاحف المسلمين بالقرآن فإن القرآن لا يتوقف نقله على المصاحف ، بل القرآن محفوظ في قلوب ألوف مؤلفة من المسلمين ، لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل ، فلو عدم كل مصحف في العالم لم يقدح ذلك في نقل لفظ من ألفاظ القرآن ، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه قل أن نجد من أهل الكتاب أحدا يحفظ كتابا من هذه الكتب ، فقل أن يوجد من اليهود من يحفظ التوراة .
وأما النصارى فلا يوجد فيهم من يحفظ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات كلها فضلا عن أن يحفظها باثنين وسبعين لسانا ، ( وإن وجد ذلك فهو قليل لا يمتنع عليهم لا الكذب ولا الغلط ) .
فتبين أن ما ذكروه من انتشار كتبهم بالألسنة المختلفة هو من أقوى الأمور في عدم العلم بتماثل ما فيها من الألفاظ ، وأن القرآن إذا كان منقولا ، بلغة واحدة ، وذلك اللسان يحفظه خلق كثير من المسلمين فكان ذلك مما يبين أن القرآن لا يمكن أحدا أن يغير شيئا من ألفاظه ، وإن [ ص: 48 ] أمكن تغيير بعض ألفاظ التوراة والإنجيل عند كثير من أهل الكتاب .
والمسلمون لا يدعون أنه غير جميع ألفاظ جميع النسخ بعد مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ظنه بهم هؤلاء الجهال ، بل إنما ادعوا ما يسوغه العقل ، بل ويظهر دليل صدقه ولكن هؤلاء الجهال ادعوا العلم ، بأن جميع النسخ بجميع الألسنة بجميع الكتب ، بلفظ واحد ، فادعوا ما لا يمكن أحدا علمه ، وادعوا ما يعلم بطلانه