وفي التمائم المعلقات إن تك آيات مبينات فالاختلاف واقع بين السلف
فبعضهم أجازها والبعض كف
( وفي التمائم المعلقات ) ; أي التي تعلق على الصبيان والدواب ونحوها إن تك هي ; أي التمائم ( آيات ) قرآنية ( مبينات ) وكذلك إن كانت من السنن الصحيحة الواضحات فالاختلاف في جوازها واقع بين السلف من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم ( فبعضهم ) ; أي بعض السلف ( أجازها ) ، يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهما من السلف ، والبعض منهم ( كف ) ; أي منع ذلك وكرهه ولم يره جائزا ، منهم عبد الله بن عكيم وعبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر وأصحابه وعبد الله بن مسعود كالأسود وعلقمة ومن بعدهم وغيرهم رحمهم الله تعالى . ولا شك أن منع ذلك أسد لذريعة الاعتقاد المحظور ، لا سيما في زماننا هذا ، فإنه إذا كرهه أكثر الصحابة والتابعين في تلك العصور الشريفة المقدسة والإيمان في قلوبهم أكبر من الجبال ، فلأن يكره في وقتنا هذا وقت الفتن والمحن أولى وأجدر بذلك ، كيف وهم قد توصلوا بهذه الرخص إلى محض المحرمات وجعلوها حيلة ووسيلة إليها ، فمن ذلك أنهم يكتبون في التعاويذ آية أو سورة أو بسملة أو نحو ذلك ثم يضعون تحتها من الطلاسم الشيطانية ما لا يعرفه إلا من اطلع على كتبهم ، ومنها أنهم يصرفون قلوب العامة عن التوكل على الله عز وجل إلى أن تتعلق قلوبهم بما كتبوه ، بل أكثرهم يرجفون بهم ولم يكن قد أصابهم شيء ، فيأتي أحدهم إلى من أراد أن يحتال على أخذ ماله مع علمه أنه قد أولع به فيقول له : إنه سيصيبك في أهلك أو في مالك أو في نفسك كذا وكذا ، أو يقول له : إن معك قرينا من الجن أو نحو ذلك ويصف له أشياء ومقدمات من الوسوسة الشيطانية موهما أنه صادق الفراسة فيه شديد الشفقة عليه حريص على جلب النفع إليه ، فإذا [ ص: 511 ] امتلأ قلب الغبي الجاهل خوفا مما وصف له حينئذ أعرض عن ربه وأقبل على ذلك الدجال بقلبه وقالبه والتجأ إليه وعول عليه دون الله عز وجل ، وقال له : فما المخرج مما وصفت وما الحيلة في دفعه ؟ كأنما بيده الضر والنفع ، فعند ذلك يتحقق فيه أمله ويعظم طمعه فيما عسى أن يبذله له فيقول له : إنك إن أعطيتني كذا وكذا كتبت لك من ذلك حجابا طوله كذا وعرضه كذا ، ويصف له ويزخرف له في القول ، وهذا الحجاب علقه من كذا وكذا من الأمراض . أترى هذا - مع هذا الاعتقاد - من الشرك الأصغر ، لا بل هو تأله لغير الله وتوكل على غيره والتجاء إلى سواه وركون إلى أفعال المخلوقين وسلب لهم من دينهم ، فهل قدر الشيطان على مثل هذه الحيل إلا بوساطة أخيه من شياطين الإنس ؟ : ( كإبراهيم النخعي قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ) ( الأنبياء : 42 ) .
ثم إنه يكتب فيه مع طلاسمه الشيطانية شيئا من القرآن ويتعلقه على غير طهارة ويحدث الحدث الأصغر والأكبر وهو معه أبدا لا يقدسه عن شيء من الأشياء ، تالله ما استهان بكتاب الله أحد من أعدائه استهانة هؤلاء الزنادقة المدعين الإسلام به ، والله ما نزل القرآن إلا لتلاوته والعمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق خبره والوقوف عند حدوده والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه والإيمان به ، كل من عند ربنا ، وهؤلاء قد عطلوا ذلك كله ونبذوه وراء ظهورهم ولم يحفظوا إلا رسمه كي يتأكلوا به ويكتسبوا كسائر الأسباب التي يتوصلون بها إلى الحرام لا الحلال ، ولو أن ملكا أو أميرا كتب كتابا إلى من هو تحت ولايته أن افعل كذا واترك كذا ، وأمر من في جهتك بكذا وانههم عن كذا ونحو ذلك ، فأخذ ذلك الكتاب ولم يقرأه ولم يتدبر أمره ونهيه ولم يبلغه إلى غيره ممن أمر بتبليغه إليه ، بل أخذه وعلقه في عنقه أو عضده ولم يلتفت إلى شيء مما فيه البتة لعاقبه الملك على ذلك أشد العقوبة ولسامه سوء العذاب ، فكيف بتنزيل جبار السماوات والأرض ، الذي له المثل الأعلى في السماوات والأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ، هو حسبي لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
وإن تكن مما سوى الوحيين فإنها شرك بغير مين
[ ص: 512 ] بل إنها قسيمة الأزلام في البعد عن سيما أولي الإسلام
( وإن تكن ) ; أي التمائم ( مما سوى الوحيين ) بل من طلاسم اليهود وعباد الهياكل والنجوم والملائكة ومستخدمي الجن ونحوهم ، أو من الخرز أو الأوتار أو الحلق من الحديد وغيره ، ( فإنها شرك ) ; أي تعلقها شرك ( بدون مين ) ; أي شك ، إذ ليست من الأسباب المباحة والأدوية المعروفة ، بل اعتقدوا فيها اعتقادا محضا أنها تدفع كذا وكذا من الآلام لذاتها لخصوصية زعموا فيها كاعتقاد أهل الأوثان في أوثانهم ، ( بل إنها قسيمة ) ; أي شبيهة ( الأزلام ) التي كان يستصحبها أهل الجاهلية في جاهليتهم ويستقسمون بها إذا أرادوا أمرا ، وهي ثلاثة قداح مكتوب على أحدها : افعل ، والثاني : لا تفعل ، والثالث : غفل ، فإن خرج في يده الذي فيه افعل مضى لأمره ، أو الذي فيه لا تفعل ترك ذلك ، أو الغفل أعاد استقسامه . وقد أبدلنا الله تعالى - وله الحمد - خيرا من ذلك : صلاة الاستخارة ودعاءها .
والمقصود أن هذه التمائم التي من غير القرآن والسنة شريكة للأزلام وشبيهة بها من حيث الاعتقاد الفاسد والمخالفة للشرع ( في البعد عن سيما أولي الإسلام ) ; أي عن زي أهل الإسلام ، فإن أهل التوحيد الخالص من أبعد ما يكون عن هذا وهذا ، والإيمان في قلوبهم أعظم من أن يدخل عليه مثل هذا ، وهم أجل شأنا وأقوى يقينا من أن يتوكلوا على غير الله أو يثقوا بغيره . وبالله التوفيق .