الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      مواقفه العظيمة .

      وأما ما منحه الله تعالى من المواقف العظيمة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حين بعثته إلى أن توفاه الله - عز وجل - من نصرته ، والذب عنه ، والشفقة عليه ، والدعوة إلى ما دعا إليه ، وملازمته إياه ، ومواساته بنفسه وماله ، وتقدمه معه في كل خير ، فأمر لا تدرك غايته ، ثم لما توفى الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - كان من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن ولاه أمرهم بعد نبيه ، وجمعهم عليه بلطفه ، فجمع الله به شمل العرب بعد شتاته ، وقمع به كل عدو للدين ودمر عليه ، وألف له الأمة وردهم إليه بعد أن ارتد أكثرهم عن دينه ، وانقلب الغالب منهم على أعقابهم كافرين ، حتى قيل : لم يبق يصلى إلا في ثلاثة مساجد : الحرمين الشريفين ، ومسجد العلاء بن الحضرمي بالبحرين ، فردهم الله تعالى إلى الحق طوعا وكرها ، وأطفأ به كل فتنة في أقل من ستة أشهر ، ولله الحمد والمنة .

      [ ص: 1145 ] قال الله - تبارك وتعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ( المائدة 54 ) الآيات .

      قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن البصري وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة .

      وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قبض ارتد عامة العرب ، إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ، ومنع بعضهم الزكاة . وهم أبو بكر - رضي الله عنه - بقتالهم ، فكره ذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال عمر - رضي الله عنه : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله ، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابهم على الله - عز وجل ؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه : فوالله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها .

      قال أنس بن مالك - رضي الله عنه : كرهت الصحابة - رضي الله عنهم - قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر - رضي الله عنه - سيفه ، وخرج وحده ، فلم يجدوا بدا من الخروج في أثره . قال ابن مسعود - رضي الله عنه : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر - رضي الله عنه ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة ، وكان قد ارتد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث فرق : منهم بنو مذحج ، ورئيسهم ذو الخمار عبهلة بن كعب العنسي ، ويلقب بالأسود ، وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن واستولى على بلاده ، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ بن جبل ومن معه من [ ص: 1146 ] المسلمين ، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم ، وعلى النهوض لحرب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه ، قال - رضي الله عنه : فأتى الخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من السماء في الليلة التي قتل فيها ، فقال - صلى الله عليه وسلم : قتل الأسود البارحة ، قتله رجل مبارك . قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز ، فاز فيروز . فبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهلاك الأسود ، وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغد ، وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد ما خرج أسامة ، وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر - رضي الله عنه .

      والفرقة الثانية : بنو حنيفة ، ورئيسهم مسيلمة الكذاب ، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر سنة عشر ، وزعم أنه اشترك مع محمد - صلى الله عليه وسلم - في النبوة ، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله ، إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، وبعث إليه رجلين من أصحابه ، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لولا أن الرسل لا تقتل ، لضربت أعناقكما ، ثم أجاب : من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، إلى مسيلمة الكذاب : أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين .

      ومرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفي ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي ، وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديدة ، وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية ، وشر الناس في الإسلام .

      والفرقة الثالثة : بنو أسد ، ورأسهم طليحة بن خويلد ، وكان طليحة آخر من ارتد [ ص: 1147 ] وادعى النبوة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الردة ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد ، فهزمهم خالد بعد قتال شديد ، وأفلت طليحة ، فمر على وجهه هاربا نحو الشام ، ثم إنه أسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه .

      وارتد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - خلق كثير حتى كفى الله المسلمين أمرهم ، ونصر دينه على يدي أبي بكر - رضي الله عنه ، قالت عائشة - رضي الله عنها : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب ، واشرأب النفاق ، ونزل بأبي ما نزل لو بحبار لهاضها . انتهى من تفسير البغوي ، رحمه الله .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية