الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء

      وقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا     في ثلث الليل الأخير ينزل
      يقول هل من تائب فيقبل [ ص: 294 ]     هل من مسيء طالب للمغفره
      يجد كريما قابلا للمعذره     يمن بالخيرات والفضائل
      ويستر العيب ويعطي السائل



      أي ، ومما يجب الإيمان به وإثباته ، وإمراره كما جاء صفة النزول للرب - عز وجل - كما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة عن فضلاء الصحابة كأبي بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وجبير بن مطعم ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن مسعود ، وعمرو بن عبسة ، ورفاعة الجهني ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي ، وأبي الدرداء ، وابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الخطاب ، وعمر بن عامر السلمي ، وغيرهم رضي الله عنهم .

      فعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل الله ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لكل نفس إلا إنسانا في قلبه شحناء أو شرك . رواه جماعة ، عن ابن وهب . وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أن أشق على أمتي ، لأخرت العشاء الأخيرة إلى ثلث الليل ، فإنه إذا مضى ثلث الليل ، هبط الله - عز وجل - إلى سماء الدنيا لم يزل بها حتى يطلع الفجر ، فيقول : ألا سائل يعطى ، ألا داع فيجاب ، ألا مذنب يستغفر فيغفر له ، ألا سقيم يستشفي فيشفى . رواه الطبراني في السنة .

      وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ . أخرجاه في الصحيحين .

      وفي رواية عن أبي هريرة ، وأبي سعيد رضي الله عنهما : [ ص: 295 ] أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله يمهل ، حتى إذا كان ثلث الليل ، هبط إلى السماء الدنيا ، فنادى : هل من مذنب يتوب ؟ هل من مستغفر ؟ هل من سائل ؟ . وفي مسند أحمد - رحمه الله تعالى - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم : ينزل الله كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول ، فيقول : أنا الملك ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له .

      وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في النزول قد تعددت طرقه في الصحيحين وسائر الأمهات ، وقد ساقه إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد من أكثر من ثلاثين طريقا ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم . وفي رواية عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ، وله في كل سماء كرسي ، فإذا نزل إلى سماء الدنيا ، جلس على كرسيه ، ثم مد ساعديه فيقول : من ذا الذي يقرض غير عديم ولا ظلوم ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، من ذا الذي يتوب فأتوب عليه ، فإذا كان عند الصبح ، ارتفع فجلس على كرسيه . رواه ابن منده ، قال : وله أصل مرسل .

      وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة ، فيقول جل جلاله : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ . حديث صحيح ، رواه النسائي ، وأبو الوليد الطيالسي .

      وعن جابر - رضي الله عنه - أن [ ص: 296 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا لثلث الليل ، فيقول : ألا عبد من عبيدي يدعوني فأستجيب له ؟ أو ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له ؟ ألا مقتر عليه رزقه ؟ ألا مظلوم يستنصرني فأنصره ؟ ألا عان يدعوني فأفك عنه ؟ فيكون ذلك مكانه حتى يفيء الفجر ، ثم يعلو ربنا - عز وجل - إلى السماء العليا على كرسيه . رواه الدارقطني .

      وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - تعالى - إذا كان ثلث الليل الآخر ، نزل إلى سماء الدنيا ، ثم بسط يده ، فقال : من يسألني فأعطيه ؟ حتى يطلع الفجر . حديث حسن ، رواه أحمد في مسنده ، ورجاله أئمة .

      ورواه أبو معاوية بلفظ : إن الله - تعالى - يفتح أبواب السماء ، ثم يهبط إلى السماء الدنيا ، ثم يبسط يده فيقول : ألا عبد يسألني فأعطيه ؟ حتى يطلع الفجر . وعن رفاعة الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل ، نزل الله إلى سماء الدنيا ، فقال : لا أسأل عن عبادي غيري ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ؟ من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه ؟ حتى ينفجر الفجر . حديث صحيح ، رواه أحمد في مسنده .

      وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول : هل من داع فأستجيب له ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ وأن داود خرج ذات ليلة ، فقال : لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه ، إلا أن يكون ساحرا أو عشارا . رواه الإمام أحمد بنحوه ، وعن أبي [ ص: 297 ] الدرداء - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينزل الله - تبارك وتعالى - في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل ، ينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ، ثم ينظر في الساعة الثانية في جنة عدن ، وهي مسكنه الذي يسكن ، لا يكون معه فيها إلا الأنبياء والشهداء والصديقون ، وفيها ما لم ير أحد ، ولم يخطر على قلب بشر ، ثم يهبط في آخر ساعة من الليل يقول : ألا مستغفر فأغفر له ؟ ألا سائل فأعطيه ؟ ألا داع فأستجيب له ؟ . رواه عثمان بن سعيد الدارمي .

      وروى موسى بن عقبة ، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد ، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : ألا عبد يدعوني فأستجيب له ؟ ألا ظالم لنفسه يدعوني فأقبله ؟ فيكون كذلك إلى مطلع الصبح ، ويعلو على كرسيه .

      وعن أبي الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال ، وقد سئل عن الوتر : أحب أوتر نصف الليل ، فإن الله يهبط من السماء السابعة إلى السماء الدنيا ، فيقول : هل من مذنب ؟ هل من مستغفر ؟ هل من داع ؟ حتى إذا طلع الفجر ارتفع . رواه محمد بن سعد في طبقاته . وعن عمرو بن عامر السلمي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ذهب ثلث الليل ، أو قال نصف [ ص: 298 ] الليل ، ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول : هل من عان فأفكه ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ . رواه ابن منده .

      وعن عبيد بن السباق أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل ربنا من آخر الليل ، فينادي مناد في السماء العليا : ألا نزل الخالق العليم ، فيخرج أهل السماء وينادي فيهم مناد بذلك ، فلا يمر بأهل السماء إلا وهم سجود . رواه أبو داود .

      وروى أبو اليمان ، ويحيى بن كثير ، وعبد الصمد بن النعمان ، ويزيد بن هارون ، وهذا سياق حديثه ، أخبرنا حريز بن عثمان ، حدثنا سليم بن عامر ، عن عمرو بن عبسة قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله جعلني الله فداك ، شيء تعلمه وأجهله ، ينفعني ولا يضرك ، ما ساعة أقرب من ساعة ، وما ساعة تبقى فيها ؟ يعني الصلاة ، فقال : يا عمرو بن عبسة ، لقد سألتني عن شيء ، ما سألني عنه أحد قبلك . إن الرب - تعالى - يتدلى من جوف الليل فيغفر ، إلا ما كان من الشرك والبغي ، والصلاة مشهودة حتى تطلع الشمس ، فإنها تطلع على قرن الشيطان ، وهي صلاة الكفار ، فأقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس ، فإذا استعلت الشمس ، فالصلاة مشهودة حتى يعتدل النهار ، فإذا اعتدل النهار ، فأخر الصلاة ، فإنها حينئذ تسجر جهنم ، فإذا فاء الفيء ، فالصلاة مشهودة حتى تدلى للغروب ، فإنها تغيب بين قرني الشيطان ، فأقصر عن الصلاة حتى تجب الشمس . وهو في مسلم مطولا .

      قلت : وهذا في معنى قوله تبارك وتعالى : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ، ( الإسراء : 77 - 78 ) [ ص: 299 ] ، وفي كتاب السنة للخلال ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل الأوسط ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ ومن يسألني فأعطيه ؟ ويترك أهل الحقد لحقدهم . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال : إن الله - عز وجل - ينزل في ثلاث ساعات بقين من الليل ، يفتح الذكر من الساعة الأولى ، لم يره أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ما شاء ، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن التي لم ترها عين ، ولم تخطر على قلب بشر ، ولا يسكنها من بني آدم غير ثلاثة : النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، ثم يقول : طوبى لمن دخلك ، ثم ينزل في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته ، فينتفض فيقول : قيومي بعزتي ، ثم يطلع إلى عباده فيقول : هل من مستغفر أغفر له ؟ هل من داع أجيبه ؟ حتى تكون صلاة الفجر .

      وكذلكم يقول : ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) ، فيشهده الله وملائكة الليل والنهار
      . رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد ، وقد تقدم قريبا بغير هذا اللفظ . وله عن القاسم بن محمد ، عن أبيه أو عمه ، عن جده ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ينزل الله - تعالى - ليلة النصف ، فيغفر للمؤمنين . الحديث .

      رواه ابن زنجويه . وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان ليلة النصف من شعبان ، هبط الله - تعالى - إلى سماء الدنيا ، فيغفر لأهل الأرض إلا لكافر أو مشاحن . رواه محمد بن الفضل البخاري . وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله [ ص: 300 ] عنه - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في النصف من شعبان ، فيغفر لأهل الأرض إلا لكافر أو مشاحن . قلت : ولا منافاة بين أحاديث تخصيص النزول بليلة النصف من شعبان ، وبين الأحاديث القاضية أنه كل ليلة ، فإن النزول في ليلة النصف من شعبان مطلق ، والنزول في كل ليلة مقيد بالنصف في لفظ ، وبالثلث في آخر ، على أنه ليس في تخصيص النزول بنصف شعبان نفي له فيما عداها ، والأحاديث التي فيها النزول كل ليلة أكثر وأشهر ، وأصح بلا شك ولا مرية .

      وقد ثبت النزول أيضا في عشية عرفة كما روى ابن أبي حاتم من حديث أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان عرفة ، فإن الله ينزل إلى سماء الدنيا ، فيباهي بهم الملائكة ، فيقول : انظروا إلى عبادي ، أتوني شعثا غبرا ، أشهدكم أني قد غفرت لهم .

      ورواه الخلال في السنة من حديث أبي النضر ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، عنه يرفعه : أفضل أيام الدنيا أيام العشر . قالوا : يا رسول الله ، ولا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : إلا من عفر وجهه في التراب ، إن عشية عرفة ينزل الله إلى سماء الدنيا ، فيقول للملائكة : انظروا إلى عبادي هؤلاء شعثا غبرا ، جاءوا من كل فج عميق ضاحين ، يسألوني رحمتي ، فلا يرى يوما أكثر عتيقا ولا عتيقة .

      وروى خلاد بن يحيى ، حدثنا عبد الوهاب ، عن مجاهد ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجلان : أحدهما أنصاري ، والآخر ثقفي ، فذكر الحديث . وفيه : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ، فيقول للملائكة : هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق ، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم . رواه طلحة بن مصرف ، عن مجاهد به . وقد [ ص: 301 ] روي النزول في رمضان ، وليس هو نافيا له في غيره ، فروى علي بن معبد ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن طارق ، عن سعيد بن جبير سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : إن الله - تبارك وتعالى - ينزل في شهر رمضان ، إذا ذهب الثلث الأول من الليل ، هبط إلى السماء الدنيا ، ثم قال : هل من سائل يعطى ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من تائب يتاب عليه ؟ .

      وروى عبيد الله بن موسى : قال ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، ( إبراهيم : 27 ) قال : ينزل الله إلى السماء الدنيا في شهر رمضان ، يدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء غير الشقاوة والسعادة والموت والحياة .

      وإسناده حسن ، وهذا الموقوف له حكم المرفوع عند المحدثين ; لأنه لا يقال من قبل الرأي ، وقد ثبت النزول لفصل القضاء وللتجلي لأهل الجنة ، كما ستأتي الأحاديث إن شاء الله - تعالى - في ذلك .

      ونحن نشهد شهادة مقر بلسانه ، مصدق بقلبه ، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب - جل وعلا - من غير أن نصف الكيفية ; لأن نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لم يصف كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا ، وأعلمنا أنه ينزل ، والله - جل وعلا - لم يترك ولا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بيان ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم ، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول ، كما يشاء ربنا ، وعلى ما يليق بجلاله وعظمته - عز وجل - غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية ، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصف لنا كيفية النزول ، فنسير بسير النصوص حيث سارت ، ونقف معها حيث وقفت ، لا نعدوها إن شاء الله - تعالى - ولا نقصر عنها ، وقد تكلفت جماعة من مثبتي [ ص: 302 ] المتكلمين ، فخاضوا في معنى ذلك ، وفي ذلك الانتقال وعدمه ، وفي خلو العرش منه وعدمه نفيا وإثباتا ، وذلك تكلف منهم ، ودخول فيما لا يعنيهم ، وهو ضرب من التكييف ، لم يأت في لفظ النصوص ، ولم يسأل الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من ذلك حين حدثهم بالنزول ، فنحن نؤمن بذلك نصدق به كما آمنوا وصدقوا ، فإن قال لنا متعنت أو متنطع : يلزم من إثبات كذا كيت وكيت في أي شيء من صفات الله ، قلنا له : أنت لا تلزمنا نحن فيما تدعيه ، وإنما تلزم قائل ذلك ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فإن كان ذلك لازما لما قاله حقيقة ، وجب الإيمان به ، إذ لازم الحق حق ، وإن لم يك ذلك لازما له ، فأنت معترض على النبي صلى الله عليه وسلم ، كاذب عليه متقدم بين يديه .

      وروى البيهقي ، عن الحاكم ، عن محمد بن صالح بن هانئ ، سمع أحمد بن سلمة ، سمعت إسحاق بن راهويه يقول : جمعني وهذا المبتدع - يعني : إبراهيم بن أبي صالح - مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ، فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها ، فقال ابن أبي صالح : كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء . فقلت : آمنت برب يفعل ما يشاء .

      وقال إسحاق رحمه الله تعالى : دخلت على ابن طاهر ، فقال : ما هذه الأحاديث ، يروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا ؟ قلت : نعم ، رواها الثقات الذين يروون الأحكام . فقال : ينزل ، ويدع عرشه ؟ فقلت : يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش ؟ قال : نعم . فقلت : فلم تتكلم في هذا ؟ وقال إسحاق أيضا : قال لي ابن طاهر : يا أبا يعقوب ، هذا الذي تروونه ، ينزل ربنا كل ليلة كيف ينزل ؟ قلت : أعز الله الأمير ، لا كيف ، إنما ينزل بلا كيف . وقال أحمد بن سعيد الرباطي : حضرت مجلس ابن طاهر ، وحضر إسحاق فسئل عن حديث النزول أصحيح هو ؟ قال : نعم . فقال له بعض القواد : كيف ينزل ؟ فقال : أثبته فوق حتى أصف لك النزول ؟ فقال الرجل : أثبته فوق ؟ فقال إسحاق : قال الله تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) ، ( الفجر : 22 ) فقال ابن طاهر : هذا يا أبا [ ص: 303 ] يعقوب يوم القيامة . فقال : ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم ؟ ا هـ من كتاب العلو .

      وهذا الذي قاله إسحاق - رحمه الله تعالى - هو الذي عليه عامة أهل السنة والجماعة ، كما قدمنا عنهم في جميع نصوص الصفات ، وأن مذهبهم إمرارها كما جاءت ، والإيمان بها بلا كيف .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية