الطائفة الخامسة : ، ولا فعل له أصلا ، بل إثبات الفعل للعبد هو عين الشرك عندهم ، بل هو كالهاوي من أعلى إلى أسفل ، وكالسعفة تحركها الريح لم يعمل باختياره طاعة ولا معصية ، ولم يكلفه الله وسعه ، بل حمله ما لا طاقة له به ، ولم يخلق فيه اختيارا لأفعاله ، ولا قدرة له عليها ، بل الطاعة والعصيان من الأقوال والأعمال ، هي عندهم عين فعل الله عز وجل ، فرفعوا اللوم عن كل كافر ، وفاسق وعاص ، وأنه يعذبهم على نفس فعله لا على أعمالهم القبيحة ، ثم اعتقدوا أن المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه وعلى ألسنة رسله إذا عملوها صارت طاعات ; لأنهم يقولون أطعنا مشيئة الله الكونية فينا ، بل لم يثبتوا الإرادة الشرعية البتة ، ومن يثبتها منهم يقول في الطاعات أطعنا الإرادة الشرعية ، وفي المعاصي التي سماها الله معاصي أطعنا الإرادة الكونية ، وأما هم فلم يثبتوا معصية أصلا ، بل أفعالهم جميعها حسنها ، وقبيحها كلها عندهم طاعات على أصلهم هذا الفاسد ، وفي ذلك رد منهم على الله - تعالى - أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وفرضه على عباده جهاد الكفار وإقامة الحدود ، بل في إرساله الرسل وإنزاله الكتب ، فيجب عندهم تعطيل الشرائع بالكلية ، والاحتجاج على نفيها بالقدر الكوني ، ومحاربتها به ، وإثبات الحجة على الله لكل كافر وفاسق وعاص ، وهذا كفر لم يسبقهم إليه غير إمامهم إبليس اللعين ، إذ يحتج على الله - تعالى - بحجتهم هذه فقال : ( الجبرية الذين يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرا فبما أغويتني ) ، والعجب أن هذا المذهب المخذول موروث عن مع تناقضه في إثبات أفعال الله عز وجل ، فإنه لا يثبت لله - تعالى - فعلا يقوم بذاته أصلا ، بل أفعاله خارجة عنه قائمة بغيره من المخلوقات ، ثم ينقض ذلك بجعله أفعال العباد أفعال الله ، وهذا تناقض بين [ ص: 373 ] لكل عاقل ، فإن الفعل إنما يضاف إلى من قام به ، والقول إلى من قاله ، وكذا السمع والبصر والقدرة ، وغيرها محال أن تضاف إلى غير من قامت به ، ومحال أن يسمى فاعلا بدون فعل يقوم به ، ولو ذهبنا نعد تشعب الفرق من هذه الطوائف ولوازم كل قول مما انتحلوه ، لاحتاج إلى كتاب مفرد ، وقد أفرد ذلك بالتصنيف غير واحد من الأئمة ، وقد قدمنا البعض من ذلك ، وذكرنا أمثلة من تحريفهم النصوص ، وسيأتي الكلام على جهم بن صفوان الدهرية في الإيمان بالبعث ، وعلى نفاة القدر والغلاة فيه في باب القدر ، والكلام على الخوارج ، والمرجئة ، والمعتزلة ، وأشباههم في باب الإيمان والدين ، والكلام على الروافض ، والنواصب في باب ذكر الصحابة ، وهذه الطوائف التي خالفت في توحيد المعرفة والإثبات مرجعها إلى ثلاث : فالحلولية ، والاتحادية ، والسلبية ، ومن في معناهم مرجعهم إلى الطبائعية الدهرية ، والقدرية النفاة بجميع فرقهم مرجعهم إلى المجوس الثنوية ، والجبرية الغلاة مرجعهم إلى النزعة الجهمية الإبليسية ، وقد قدمنا قول المؤمنين أتباع الرسل مبسوطا بما فيه كفاية .