الفصل التاسع : فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته - صلى الله عليه وسلم -
قال الله - تعالى - : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ الفتح : 1 ] إلى قوله - تعالى - : يد الله فوق أيديهم . [ الفتح : 10 ] تضمنت هذه الآيات من فضله والثناء عليه ، وكريم منزلته عند الله - تعالى - ، ونعمته لديه ما يقصر الوصف عن الانتهاء إليه ، فابتدأ - جل جلاله - بإعلامه بما قضاه له من القضاء البين بظهوره ، وغلبته على عدوه ، وعلو كلمته ، وشريعته ، وأنه مغفور له ، غير مؤاخذ بما كان وما يكون . قال بعضهم : أراد غفران ما وقع ، وما لم يقع ، أي أنك مغفور لك ، وقال : جعل الله المنة سببا للمغفرة ، وكل من عنده ، لا إله غيره ، منة بعد منة ، وفضلا بعد فضل . ثم قال : ويتم نعمته عليك : قيل بخضوع من تكبر عليك ، وقيل : بفتح مكي مكة ، والطائف ، وقيل : يرفع ذكرك في الدنيا ، وينصرك ، ويغفر لك ، فأعلمه بتمام نعمته عليه بخضوع متكبري عدوه له ، وفتح أهم البلاد عليه ، وأحبها له ، ورفع ذكره ، وهدايته الصراط المستقيم المبلغ الجنة ، والسعادة ، ونصره النصر العزيز ، ومنته على أمته المؤمنين بالسكينة ، والطمأنينة التي جعلها في قلوبهم ، وبشارتهم بما لهم عند ربهم بعد ، وفوزهم العظيم ، والعفو عنهم ، والستر لذنوبهم ، وهلاك عدوه في الدنيا ، والآخرة ، ولعنهم ، وبعدهم من رحمته ، وسوء منقلبهم . ثم قال : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا [ الفتح : 8 ] الآية شاهدا لهم بالتوحيد ، ومبشرا لأمته بالثواب ، وقيل : بالمغفرة ، ومنذرا عدوه بالعذاب ، وقيل : محذرا من الضلالات ليؤمنوا بالله ثم به - صلى الله عليه وسلم - من سبقت له من الله الحسنى ، ويعزروه ، ويجلونه ، وقيل : ينصرونه ، وقيل : يبالغون في تعظيمه ، ويوقروه ، أي يعظمونه ، وقرأه بعضهم : يعززوه [ الفتح : 9 ] بزاءين : من العز ، والأكثر ، والأظهر أن هذا في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - . ثم قال : " ويسبحوه " [ الفتح : 8 ] ، فهذا راجع إلى الله - تعالى - . قال ابن [ ص: 144 ] عطاء جمع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه السورة نعم مختلفة ، من الفتح المبين ، وهو من أعلام الإجابة ، والمغفرة ، وهي من أعلام المحبة ، وتمام النعمة ، وهي من أعلام الاختصاص ، والهداية ، وهي من أعلام الولاية ، فالمغفرة تبرئة من العيوب ، وتمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة ، والهداية ، وهي الدعوة إلى المشاهدة .
وقال : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، وأقسم بحياته ، ونسخ به شرائع غيره ، وعرج به إلى المحل الأعلى ، جعفر بن محمد ، وما طغى ، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر ، وبعثه إلى الأحمر ، والأسود ، وأحل له ، ولأمته الغنائم ، وجعله شفيعا مشفعا ، وسيد ولد آدم ، وجعله أحد ركني التوحيد . ثم قال : وقرن ذكره بذكره ، ورضاه برضاه إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله [ الفتح : 10 ] يعني بيعة الرضوان أي إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك . يد الله فوق أيديهم [ الفتح : 10 ] ، يريد عند البيعة . قيل : قوة الله ، وقيل : ثوابه ، وقيل : منته ، وقيل : عقده ، وهذه استعارة ، وتجنيس في الكلام ، وتأكيد لعقد بيعتهم إياه ، وعظم شأن المبايع - صلى الله عليه وسلم - . وقد يكون من هذا قوله - تعالى - : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [ الأنفال : 17 ] ، وإن كان الأول في باب المجاز ، وهذا في باب الحقيقة ، لأن القاتل ، والرامي بالحقيقة هو الله ، وهو خالق فعله ، ورميه ، وقدرته عليه ، ومسببه ، ولأنه ليس في قدرة البشر توصيل تلك الرمية حيث وصلت ، حتى لم يبق منهم من لم تملأ عينيه ، وكذلك قتل الملائكة لهم حقيقة ، وقد قيل في هذه الأخرى إنها على المجاز العربي ، ومقابلة اللفظ ، ومناسبته ، أي ما قتلتموهم ، وما رميتهم أنت إذ رميت وجوههم بالحصباء ، والتراب ، ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع ، أي أن منفعة الرمي كانت من فعل الله ، فهو القاتل ، والرامي بالمعنى ، وأنت بالاسم .