الفصل السادس : رفع بعض
nindex.php?page=treesubj&link=28756الشبهات
وقد توجهت هاهنا لبعض الطاعنين سؤالات ، منها :
ما روي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ سورة والنجم وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=19أفرأيتم اللات والعزى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=20ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 - 20 ] قال :
تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، ويروى :
ترتضى . وفي رواية :
إن شفاعتها لترتجى ، وإنها لمع الغرانيق العلى .
وفي أخرى :
والغرانقة العلى ، تلك للشفاعة ترتجى .
فلما ختم السورة سجد ، وسجد معه المسلمون ، والكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم .
وما وقع في بعض الروايات
أن الشيطان ألقاها على لسانه وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمنى أن لو نزل عليه شيء يقارب بينه وبين قومه .
وفي رواية أخرى :
أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه ، وذكر هذه القصة ،
وأن جبريل - عليه السلام - جاء فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال له : ما جئتك بهاتين . فحزن لذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله - تعالى - تسلية له : nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ الحج : 52 ] الآية . .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=73وإن كادوا ليفتنونك [ الإسراء : 73 ] .
فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما : في توهين أصله ، والثاني على تسليمه .
أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ، وإنما أولع به وبمثله المفسرون ، والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم .
وصدق القاضي
بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء ، والتفسير ، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه في الصلاة ، وآخر يقول : قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول : قالها ، وقد أصابته سنة ، وآخر يقول : بل حدث نفسه فسها ، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرضها على
جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها ، فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال : والله ما هكذا نزلت إلى غير
[ ص: 478 ] ذلك من اختلاف الرواة .
ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين ، والتابعين لم يسندها أحد منهم ، ولا رفعها إلى صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، والمرفوع فيه حديث
شعبة : عن
أبي بشر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال فيما أحسب :
الشك في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة . . . وذكر القصة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13863أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن
شعبة إلا
أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن
الكلبي ، عن
أبي صالح ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فقد بين لك
أبو بكر - رحمه الله - أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا .
وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ، ولا حقيقة معه .
وأما حديث
الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه ، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه
البزار : - رحمه الله - .
والذي منه في الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=989851أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ والنجم ، وهو بمكة ، فسجد معه المسلمون ، والمشركون ، والجن ، والإنس .
هذا توهينه من طريق النقل فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة ، وأجمعت الأمة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله ، وهو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، ويعتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه
جبريل - عليه السلام - ، وذلك كله ممتنع في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، أو يقول ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل نفسه عمدا ، وذلك كفر ، أو سهوا ، وهو معصوم من هذا كله .
وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته - صلى الله عليه وسلم - من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ، ولا سهوا ، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله ، لا عمدا ، ولا سهوا ، ما لم ينزل عليه ، وقد قال الله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=44ولو تقول علينا بعض الأقاويل [ الحاقة : 44 ] الآية ، وقال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=75إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ الإسراء : 75 ] الآية ، ووجه ثان وهو استحالة هذه القصة نظرا ، وعرفا ، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام ، لكونه متناقض الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف والنظم . ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا من بحضرته من المسلمين ، وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا
[ ص: 479 ] يخفى على أدنى متأمل ، فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه .
ووجه ثالث : أنه قد علم من عادة المنافقين ، ومعاندي المشركين ، وضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة ، وتخليط العدو على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين ، والشماتة بهم الفينة بعد الفينة ، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ، ولو كان ذلك لوجدت
قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها
اليهود عليهم الحجة ، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة ، وكذلك ما روي في قصة القضية ، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت ، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت ، فما روي عن معاند فيها كلمة ، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة ، فدل على بطلها ، واجتثاث أصلها .
ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين .
ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=73وإن كادوا ليفتنونك [ الإسراء : 73 ] الآيتين .
وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه ، لأن الله - تعالى - ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم .
فمضمون هذا ومفهومه أن الله - تعالى - عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا ، فكيف كثيرا ! وهم يروون أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون ، والافتراء بمدح آلهتهم ، وأنه قال - صلى الله عليه وسلم - : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، وهذا ضد مفهوم الآية ، وهي تضعف الحديث لو صح ، فكيف ، ولا صحة له ؟ .
وهذا مثل قوله - تعالى - في الآية الأخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء [ النساء : 113 ] .
وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون ، قال الله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=43يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار [ النور : 43 ] ، ولم يذهب . و
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=15أكاد أخفيها ولم يفعل .
قال
القشيري القاضي : ولقد طالبه
قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ، ووعدوه الإيمان به إن فعل ، فما فعل ، ولا كان ليفعل .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : ما قارب الرسول ، ولا ركن .
وقد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله ترد سفسافها ، فلم يبق في الآية إلا أن الله - تعالى - امتن على رسوله بعصمته ، وتثبيته مما كاده به الكفار ، وراموا من فتنته ، ومرادنا من ذلك تنزيهه ، وعصمته - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مفهوم الآية .
وأما المأخذ الثاني : فهو مبني على تسليم الحديث لو صح ، وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن
[ ص: 480 ] على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ، منها الغث والسمين ، فمنها ما روى
قتادة ،
ومقاتل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أصابته سنة عند قراءته هذه السورة فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم .
وهذا لا يصح ، إذ لا يجوز على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله في حالة من أحواله ، ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ، ولا يقظة لعصمته في هذا الباب من جميع العمد ، والسهو .
وفي قول
الكلبي : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدث نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه .
وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11947أبي بكر بن عبد الرحمن قال :
وسها ، فلما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان .
وكل هذا لا يصح أن يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سهوا ولا قصدا ، ولا يتقوله الشيطان على لسانه .
وقيل : لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أثناء تلاوته على تقدير التقرير ، والتوبيخ للكفار ، كقول
إبراهيم - عليه السلام - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76هذا ربي [ الأنعام : 76 ] على أحد التأويلات .
وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=63بل فعله كبيرهم هذا [ الأنبياء : 63 ] بعد السكت ، وبيان الفضل بين الكلامين ، ثم رجع إلى تلاوته .
وهذا ممكن مع بيان الفضل ، وقرينة تدل على المراد ، وأنه ليس من المتلو ، وهو أحد ما ذكره
القاضي أبو بكر .
ولا يعترض على هذا بما روي أنه كان في الصلاة ، فقد كان الكلام قبل فيها غير ممنوع .
والذي يظهر ، ويترجح في تأويله عنده ، وعند غيره من المحققين على تسليمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته ، كما رواه الثقات عنه ، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ، ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا نغمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار ، فظنوها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأشاعوها ، ولم يقدح ذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله ، وتحققهم من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم الأوثان وعيبها على ما عرف منه .
وقد حكى
nindex.php?page=showalam&ids=17177موسى بن عقبة في مغازيه نحو هذا ، وقال : إن المسلمين لم يسمعوها ، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين ، وقلوبهم ، ويكون ما روي من حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الإشاعة ، والشبهة ، وسبب هذه الفتنة .
وقد قال الله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي [ الحج : 52 ] الآية . فمعنى تمنى : تلا ، قال الله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=78لا يعلمون الكتاب إلا أماني [ البقرة : 78 ] ، أي تلاوة .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52فينسخ الله ما يلقي الشيطان [ الحج : 52 ] ، أي يذهبه ، ويزيل اللبس به ، ويحكم آياته .
وقيل : معنى الآية هو ما يقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من السهو إذا قرأ فينتبه لذلك ، ويرجع عنه .
[ ص: 481 ] وهذا نحو قول
الكلبي في الآية : أنه حدث نفسه ، وقال : إذا تمنى ، أي حدث نفسه .
وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=11947أبي بكر بن عبد الرحمن نحوه .
وهذا السهو في القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعاني ، وتبديل الألفاظ ، وزيادة ما ليس من القرآن ، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة ، ولكنه لا يقر على هذا السهو ، بل ينبه عليه ، ويذكر به للحين على ما سنذكره في حكم ما يجوز عليه من السهو ، وما لا يجوز .
ومما يظهر في تأويله أيضا أن
مجاهدا روى هذه القصة : والغرانقة العلى ، فإن سلمنا القصة قلنا : لا يبعد أن هذا كان قرآنا ، والمراد بالغرانقة العلى ، وأن شفاعتهن لترتجى : الملائكة على هذه الرواية .
وبهذا فسر
الكلبي الغرانقة أنها الملائكة ، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثان والملائكة بنات الله ، كما حكى الله عنهم ، ورد عليهم في هذه السورة بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=21ألكم الذكر وله الأنثى [ النجم : 21 ] فأنكر الله كل هذا من قولهم ، ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح ، فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ، ولبس عليهم الشيطان ذلك ، وزينه في قلوبهم ، وألقاه إليهم نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم آياته ، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين ، وجد الشيطان بهما سبيلا للإلباس ، كما نسخ كثير من القرآن ، ورفعت تلاوته ، وكان في إنزال الله - تعالى - لذلك حكمة ، وفي نسخه حكمة ، ليضل به من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وما يضل به إلا الفاسقين ، و
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=53ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=54وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم [ الحج : 53 ، 54 ] الآية . .
وقيل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه السورة ، وبلغ ذكر اللات ، والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتي بشيء من ذمها فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين ليخلطوا في تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويشنعوا عليه على عادتهم ، وقولهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=26لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ فصلت : 26 ]
ونسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه وأشاعوا ذلك وأذاعوه وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله فحزن لذلك من كذبهم وافترائهم عليه فسلاه الله تعالى بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وما أرسلنا من قبلك [ الحج : 52 ] الآية ، وبين للناس الحق من ذلك من الباطل ، وحفظ القرآن وأحكم آياته ، ودفع ما لبس به العدو ، كما ضمنه - تعالى - من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] .
ومن ذلك ما روي من قصة
يونس - عليه السلام - ، وأنه وعد قومه العذاب عن ربه ، فلما تابوا كشف عنهم العذاب ، فقال : لا أرجع إليهم كذابا أبدا ، فذهب مغاضبا .
فاعلم أكرمك الله أن ليس في خبر من الأخبار الواردة في هذا الباب أن
يونس - عليه السلام - قال لهم : إن الله مهلككم ، وإنما فيه أنه دعا عليهم بالهلاك ، والدعاء ليس بخبر يطلب صدقه من كذبه ، لكنه قال لهم : إن العذاب مصبحكم وقت كذا وكذا ،
[ ص: 482 ] فكان ذلك ، كما قال ، ثم رفع الله - تعالى - عنهم العذاب ، وتداركهم ، قال الله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=98إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي [ يونس : 98 ] الآية . .
وروي في الأخبار أنهم رأوا دلائل العذاب ، ومخايله ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : غشاهم العذاب كما يغشي الثوب القبر .
فإن قلت : فما معنى ما روي من أن
nindex.php?page=showalam&ids=16436عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ارتد مشركا ، وصار إلى قريش فقال لهم : إني كنت أصرف محمدا حيث أريد ، كان يملي علي [ عزيز حكيم ] فأقول أو [ عليم حكيم ] ؟ فيقول : نعم ، كل صواب .
وفي حديث آخر : فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989855اكتب كذا فيقول : أكتب كذا ؟ فيقول : اكتب كيف شئت ويقول : اكتب عليما حكيما ، فيقول أكتب : سميعا بصيرا ، فيقول له : اكتب كيف شئت .
وفي الصحيح عن
أنس - رضي الله عنه -
nindex.php?page=hadith&LINKID=989856أن نصرانيا كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما أسلم ثم ارتد ، وكان يقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له .
فاعلم ثبتنا الله ، وإياك على الحق ، ولا جعل للشيطان وتلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلا أن مثل هذه الحكاية أولا لا توقع في قلب مؤمن ريبا ، إذ هي حكاية عمن ارتد ، وكفر بالله ، ونحن لا نقبل خبر المسلم المتهم ، فكيف بكافر افترى هو ومثله على الله ، ورسله ما هو أعظم من هذا ! .
والعجب لسليم العقل يشغل بمثل هذه الحكاية سره ، وقد صدرت من عدو كافر مبغض للدين ، مفتر على الله ، ورسوله ، ولم ترد عن أحد من المسلمين ، ولا ذكر أحد من الصحابة أنه شاهد ما قاله ، وافتراه على نبي الله ،
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=105إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ النحل : 105 ] الآية . .
[ ، وما وقع من ذكرها في حديث
أنس - رضي الله عنه - ، وظاهر حكايتها ، فليس فيه ما يدل على أنه شاهدها ، ولعله حكى ما سمع .
وقد علل
البزار حديثه ذلك ، وقال : رواه
ثابت عنه ، ولم يتابع عليه ، ورواه
حميد عن
أنس ، قال : وأظن إنما سمعه من
ثابت .
قال القاضي
أبو الفضل ، - وفقه الله - : ولهذا ، والله أعلم ، لم يخرج أهل الصحيح حديث
ثابت ، ولا
حميد . والصحيح حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16376عبد العزيز بن رفيع عن
أنس - رضي الله عنه - الذي خرجه أهل الصحة ، وذكرناه ، وليس فيه عن
أنس قول شيء من ذلك من قبل نفسه إلا من حكايته عن المرتد النصراني ، ولو كانت صحيحة لما كان فيها قدح ، ولا توهيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه ، ولا جواز للنسيان ، والغلط عليه ، والتحريف فيما بلغه ، ولا طعن في نظم القرآن وأنه من عند الله ، إذ
[ ص: 483 ] ليس فيه لو صح أكثر من أن الكاتب قال له : عليم حكيم ، وكتبه ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : كذلك هو فسبقه لسانه أو قلمه لكلمة أو كلمتين مما نزل على الرسول قبل إظهار الرسول لها ، إذ كان ما تقدم مما أملاه الرسول يدل عليها ، ويقتضي وقوعها بقوة قدرة الكاتب على الكلام ، ومعرفته به ، وجودة حسه ، وفطنته ، كما يتفق ذلك للعارف إذا سمع البيت أن يسبق إلى قافيته ، أو مبتدأ الكلام الحسن إلى ما يتم به ، ولا يتفق في جملة الكلام ، كما لا يتفق ذلك في آية ، ولا سورة .
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : كل صواب إن صح فقد يكون هذا فيما كان فيه من مقاطع الآي وجهان ، وقراءتان أنزلتا جميعا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأملى إحداها ، وتوصل الكاتب بفطنته ، ومعرفته بمقتضى الكلام إلى الأخرى ، فذكرها للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قدمناه ، فصوبها له النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أحكم الله من ذلك ما أحكم ، ونسخ ما نسخ كما قد وجد ذلك في بعض مقاطع الآي ، مثل قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ المائدة : 118 ] .
وهذه قراءة الجمهور ، وقد قرأ جماعة : [ فإنك أنت الغفور الرحيم ] . وليست من المصحف .
وكذلك كلمات جاءت على وجهين في غير المقاطع ، قرأ بهما جميعا الجمهور ، وثبتتا في المصحف ، مثل :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259وانظر إلى العظام كيف ننشزها [ البقرة : 259 ] ، وننشزها ، ويقضي الحق ، ويقص الحق .
وكل هذا لا يوجب ريبا ، ولا يسبب للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلطا ، ولا وهما .
وقد قيل : إن هذا يحتمل أن يكون فيما يكتبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس غير القرآن فيصف الله ، ويسميه في ذلك كيف يشاء .
الْفَصْلُ السَّادِسُ : رَفْعُ بَعْضِ
nindex.php?page=treesubj&link=28756الشُّبُهَاتِ
وَقَدْ تَوَجَّهَتْ هَاهُنَا لِبَعْضِ الطَّاعِنِينَ سُؤَالَاتٌ ، مِنْهَا :
مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ وَالنَّجْمِ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=19أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=20وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [ النَّجْمِ : 19 - 20 ] قَالَ :
تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لِتُرْتَجَى ، وَيُرْوَى :
تُرْتَضَى . وَفِي رِوَايَةٍ :
إِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى ، وَإِنَّهَا لَمَعَ الْغَرَانِيقِ الْعُلَى .
وَفِي أُخْرَى :
وَالْغَرَانِقَةُ الْعُلَى ، تِلْكَ لِلشَّفَاعَةِ تُرْتَجَى .
فَلَمَّا خَتَمَ السُّورَةَ سَجَدَ ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَالْكُفَّارُ لَمَّا سَمِعُوهُ أَثْنَى عَلَى آلِهَتِهِمْ .
وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى :
أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ،
وَأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَاءَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ لَهُ : مَا جِئْتُكَ بِهَاتَيْنِ . فَحَزِنَ لِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - تَسْلِيَةً لَهُ : nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ الْحَجِّ : 52 ] الْآيَةَ . .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=73وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [ الْإِسْرَاءِ : 73 ] .
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ لَنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى مُشْكَلِ هَذَا الْحَدِيثَ مَأْخَذَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : فِي تَوْهِينِ أَصْلِهِ ، وَالثَّانِي عَلَى تَسْلِيمِهِ .
أَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ فَيَكْفِيكَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصِّحَّةِ ، وَلَا رَوَاهُ ثِقَةٌ بِسَنَدٍ سَلِيمٍ مُتَّصِلٍ ، وَإِنَّمَا أُولِعَ بِهِ وَبِمِثْلِهِ الْمُفَسِّرُونَ ، وَالْمُؤَرِّخُونَ الْمُولَعُونَ بِكُلِّ غَرِيبٍ ، الْمُتَلَقِّفُونَ مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وَسَقِيمٍ .
وَصَدَقَ الْقَاضِي
بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَالِكِيُّ حَيْثُ قَالَ : لَقَدْ بُلِيَ النَّاسُ بِبَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ، وَالتَّفْسِيرِ ، وَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْمُلْحِدُونَ مَعَ ضَعْفِ نَقَلَتِهِ ، وَاضْطِرَابِ رِوَايَاتِهِ ، وَانْقِطَاعِ إِسْنَادِهِ ، وَاخْتِلَافِ كَلِمَاتِهِ ، فَقَائِلٌ يَقُولُ : إِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَآخَرُ يَقُولُ : قَالَهَا فِي نَادِي قَوْمِهِ حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ ، وَآخَرُ يَقُولُ : قَالَهَا ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ سِنَةٌ ، وَآخَرُ يَقُولُ : بَلْ حَدَّثَ نَفْسَهُ فَسَهَا ، وَآخَرُ يَقُولُ : إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَرَضَهَا عَلَى
جِبْرِيلَ قَالَ : مَا هَكَذَا أَقْرَأْتُكَ ، وَآخَرُ يَقُولُ : بَلْ أَعْلَمَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَهَا ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ قَالَ : وَاللَّهِ مَا هَكَذَا نَزَلَتْ إِلَى غَيْرِ
[ ص: 478 ] ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ .
وَمَنْ حُكِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، وَالتَّابِعِينَ لَمْ يُسْنِدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ ، وَلَا رَفَعَهَا إِلَى صَاحِبٍ ، وَأَكْثَرُ الطُّرُقِ عَنْهُمْ فِيهَا ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ ، وَالْمَرْفُوعُ فِيهِ حَدِيثُ
شُعْبَةَ : عَنْ
أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِيمَا أَحْسَبُ :
الشَّكُّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِمَكَّةَ . . . وَذَكَرَ الْقِصَّةَ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13863أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا هَذَا ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ
شُعْبَةَ إِلَّا
أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ ، وَغَيْرُهُ يُرْسِلُهُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ
الْكَلْبِيِّ ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ
أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ سِوَى هَذَا .
وَفِيهِ مِنَ الضَّعْفِ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ، مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ ، وَلَا حَقِيقَةَ مَعَهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ
الْكَلْبِيِّ فَمِمَّا لَا تَجُوزُ الرَّاوِيَةُ عَنْهُ ، وَلَا ذِكْرُهُ لِقُوَّةِ ضَعْفِهِ وَكَذِبِهِ ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
الْبَزَّارُ : - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
وَالَّذِي مِنْهُ فِي الصَّحِيحِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=989851أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ وَالنَّجْمِ ، وَهُوَ بِمَكَّةَ ، فَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَالْمُشْرِكُونَ ، وَالْجِنُّ ، وَالْإِنْسُ .
هَذَا تَوْهِينُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَنَزَاهَتِهِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ ، إِمَّا مِنْ تَمَنِّيهِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا مِنْ مَدْحِ آلِهَةٍ غَيْرِ اللَّهِ ، وَهُوَ كُفْرٌ ، أَوْ أَنْ يَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيُشَبِّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ حَتَّى يَجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَيَعْتَقِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى يُنَبِّهَهُ
جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَوْ يَقُولُ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عَمْدًا ، وَذَلِكَ كُفْرٌ ، أَوْ سَهْوًا ، وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ .
وَقَدْ قَرَّرْنَا بِالْبَرَاهِينِ وَالْإِجْمَاعِ عِصْمَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَرَيَانِ الْكُفْرِ عَلَى قَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ لَا عَمْدًا ، وَلَا سَهْوًا ، أَوْ أَنْ يَتَشَبَّهَ عَلَيْهِ مَا يُلْقِيهِ الْمَلَكُ بِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ أَوْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ ، أَوْ أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ ، لَا عَمْدًا ، وَلَا سَهْوًا ، مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=44وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ [ الْحَاقَّةِ : 44 ] الْآيَةَ ، وَقَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=75إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [ الْإِسْرَاءِ : 75 ] الْآيَةَ ، وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ اسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَظَرًا ، وَعُرْفًا ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَوْ كَانَ كَمَا رُوِيَ لَكَانَ بَعِيدَ الِالْتِئَامِ ، لِكَوْنِهِ مُتَنَاقِضَ الْأَقْسَامِ ، مُمْتَزِجَ الْمَدْحِ بِالذَّمِّ ، مُتَخَاذِلَ التَّأْلِيفِ وَالنَّظْمِ . وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَا مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَصَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَهَذَا لَا
[ ص: 479 ] يَخْفَى عَلَى أَدْنَى مُتَأَمِّلٍ ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَجَحَ حِلْمُهُ ، وَاتَّسَعَ فِي بَابِ الْبَيَانِ وَمَعْرِفَةِ فَصِيحِ الْكَلَامِ عِلْمُهُ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ : أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ ، وَمُعَانِدِي الْمُشْرِكِينَ ، وَضَعَفَةِ الْقُلُوبِ ، وَالْجَهَلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نُفُورُهُمْ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ ، وَتَخْلِيطُ الْعَدُوِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَقَلِّ فِتْنَةٍ ، وَتَعْييرُهُمُ الْمُسْلِمِينَ ، وَالشَّمَاتَةُ بِهِمُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ ، وَارْتِدَادُ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرْضٌ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَدْنَى شُبْهَةٍ ، وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ شَيْئًا سِوَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الضَّعِيفَةِ الْأَصْلِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَدَتْ
قُرَيْشٌ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الصَّوْلَةَ ، وَلَأَقَامَتْ بِهَا
الْيَهُودُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ ، كَمَا فَعَلُوا مُكَابَرَةً فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ حَتَّى كَانَتْ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ الضُّعَفَاءِ رِدَّةٌ ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْقَضِيَّةِ ، وَلَا فِتْنَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ لَوْ وُجِدَتْ ، وَلَا تَشْغِيبَ لِلْمُعَادِي حِينَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَوْ أَمْكَنَتْ ، فَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَانِدٍ فِيهَا كَلِمَةٌ ، وَلَا عَنْ مُسْلِمٍ بِسَبَبِهَا بِنْتُ شَفَةٍ ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلِهَا ، وَاجْتِثَاثِ أَصْلِهَا .
وَلَا شَكَّ فِي إِدْخَالِ بَعْضِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى بَعْضِ مُغَفَّلِي الْمُحَدِّثِينَ ، لِيُلَبِّسَ بِهِ عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ .
وَوَجْهٌ رَابِعٌ : ذَكَرَ الرُّوَاةُ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ فِيهَا نَزَلَتْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=73وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [ الْإِسْرَاءِ : 73 ] الْآيَتَيْنِ .
وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تَرُدَّانِ الْخَبَرَ الَّذِي رَوَوْهُ ، لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ حَتَّى يَفْتَرِيَ ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنْ ثَبَّتَهُ لَكَادَ يَرْكَنُ إِلَيْهِمْ .
فَمَضْمُونُ هَذَا وَمَفْهُومُهُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَصَمَهُ مِنْ أَنْ يَفْتَرِيَ ، وَثَبَّتَهُ حَتَّى لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا ، فَكَيْفَ كَثِيرًا ! وَهُمْ يَرْوُونَ أَخْبَارَهُمُ الْوَاهِيَةَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الرُّكُونِ ، وَالِافْتِرَاءِ بِمَدْحِ آلِهَتِهِمْ ، وَأَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ ، وَقُلْتُ مَا لَمْ يَقُلْ ، وَهَذَا ضِدُّ مَفْهُومِ الْآيَةِ ، وَهِيَ تُضْعِفُ الْحَدِيثَ لَوْ صَحَّ ، فَكَيْفَ ، وَلَا صِحَّةَ لَهُ ؟ .
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [ النِّسَاءِ : 113 ] .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ كَادَ فَهُوَ مَا لَا يَكُونُ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=43يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ [ النُّورِ : 43 ] ، وَلَمْ يَذْهَبْ . وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=15أَكَادُ أُخْفِيهَا وَلَمْ يَفْعَلْ .
قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ الْقَاضِي : وَلَقَدْ طَالَبَهُ
قُرَيْشٌ وَثَقِيفٌ إِذْ مَرَّ بِآلِهَتِهِمْ أَنْ يُقْبِلَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهَا ، وَوَعَدُوهُ الْإِيمَانَ بِهِ إِنْ فَعَلَ ، فَمَا فَعَلَ ، وَلَا كَانَ لِيَفْعَلَ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : مَا قَارَبَ الرَّسُولُ ، وَلَا رَكَنَ .
وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ تَفَاسِيرُ أُخَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ اللَّهِ عَلَى عِصْمَةِ رَسُولِهِ تَرُدُّ سِفْسَافَهَا ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - امْتَنَّ عَلَى رَسُولِهِ بِعِصْمَتِهِ ، وَتَثْبِيتِهِ مِمَّا كَادَهُ بِهِ الْكُفَّارُ ، وَرَامُوا مِنْ فِتْنَتِهِ ، وَمُرَادُنَا مِنْ ذَلِكَ تَنْزِيهُهُ ، وَعِصْمَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَهُوَ مَفْهُومُ الْآيَةِ .
وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الثَّانِي : فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ ، وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ صِحَّتِهِ ، وَلَكِنْ
[ ص: 480 ] عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ أَجَابَ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِأَجْوِبَةٍ ، مِنْهَا الْغَثُّ وَالسَّمِينُ ، فَمِنْهَا مَا رَوَى
قَتَادَةُ ،
وَمُقَاتِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَصَابَتْهُ سِنَةٌ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ هَذِهِ السُّورَةَ فَجَرَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ بِحُكْمِ النَّوْمِ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ ، وَلَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ وَلَا يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ فِي نَوْمٍ ، وَلَا يَقَظَةٍ لِعِصْمَتِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جَمِيعِ الْعَمْدِ ، وَالسَّهْوِ .
وَفِي قَوْلِ
الْكَلْبِيِّ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَ نَفْسَهُ ، فَقَالَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ .
وَفِي رِوَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11947أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ :
وَسَهَا ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ قَالَ : إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ .
وَكُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا سَهْوًا وَلَا قَصْدًا ، وَلَا يَتَقَوَّلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ .
وَقِيلَ : لَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي أَثْنَاءِ تِلَاوَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّقْرِيرِ ، وَالتَّوْبِيخِ لِلْكُفَّارِ ، كَقَوْلِ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=76هَذَا رَبِّي [ الْأَنْعَامِ : 76 ] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ .
وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=63بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [ الْأَنْبِيَاءِ : 63 ] بَعْدَ السَّكْتِ ، وَبَيَانِ الْفَضْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تِلَاوَتِهِ .
وَهَذَا مُمْكِنٌ مَعَ بَيَانِ الْفَضْلِ ، وَقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَتْلُوِّ ، وَهُوَ أَحَدُ مَا ذَكَرَهُ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ .
وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاةِ ، فَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ قَبْلُ فِيهَا غَيْرَ مَمْنُوعٍ .
وَالَّذِي يَظْهَرُ ، وَيَتَرَجَّحُ فِي تَأْوِيلِهِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ، وَيُفَصِّلُ الْآيَ تَفْصِيلًا فِي قِرَاءَتِهِ ، كَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْهُ ، فَيُمْكِنُ تَرَصُّدُ الشَّيْطَانِ لِتِلْكَ السَّكَتَاتِ ، وَدَسُّهُ فِيهَا مَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مُحَاكِيًا نَغْمَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مَنْ دَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ ، فَظَنُّوهَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَأَشَاعُوهَا ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِحِفْظِ السُّورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، وَتَحَقُّقِهِمْ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَمِّ الْأَوْثَانِ وَعَيْبِهَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْهُ .
وَقَدْ حَكَى
nindex.php?page=showalam&ids=17177مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ نَحْوَ هَذَا ، وَقَالَ : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعُوهَا ، وَإِنَّمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقُلُوبِهِمْ ، وَيَكُونُ مَا رُوِيَ مِنْ حُزْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَذِهِ الْإِشَاعَةِ ، وَالشُّبْهَةِ ، وَسَبَبِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ [ الْحَجِّ : 52 ] الْآيَةَ . فَمَعْنَى تَمَنَّى : تَلَا ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=78لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [ الْبَقَرَةِ : 78 ] ، أَيْ تِلَاوَةً .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [ الْحَجِّ : 52 ] ، أَيْ يُذْهِبُهُ ، وَيُزِيلُ اللَّبْسَ بِهِ ، وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ .
وَقِيلَ : مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا يَقَعُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ السَّهْوِ إِذَا قَرَأَ فَيَنْتَبِهُ لِذَلِكَ ، وَيَرْجِعُ عَنْهُ .
[ ص: 481 ] وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ
الْكَلْبِيِّ فِي الْآيَةِ : أَنَّهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ ، وَقَالَ : إِذَا تَمَنَّى ، أَيْ حَدَّثَ نَفْسَهُ .
وَفِي رِوَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=11947أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَحْوُهُ .
وَهَذَا السَّهْوُ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ تَغْيِيرَ الْمَعَانِي ، وَتَبْدِيلَ الْأَلْفَاظِ ، وَزِيَادَةَ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ ، بَلِ السَّهْوُ عَنْ إِسْقَاطِ آيَةٍ مِنْهُ أَوْ كَلِمَةٍ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى هَذَا السَّهْوِ ، بَلْ يُنَبَّهُ عَلَيْهِ ، وَيُذَكَّرُ بِهِ لِلْحِينِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ السَّهْوِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ .
وَمِمَّا يَظْهَرُ فِي تَأْوِيلِهِ أَيْضًا أَنَّ
مُجَاهِدًا رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ : وَالْغَرَانِقَةُ الْعُلَى ، فَإِنْ سَلَّمْنَا الْقِصَّةَ قُلْنَا : لَا يَبْعُدُ أَنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا ، وَالْمُرَادُ بِالْغَرَانِقَةِ الْعُلَى ، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى : الْمَلَائِكَةُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ .
وَبِهَذَا فَسَرَّ
الْكَلْبِيُّ الْغَرَانِقَةَ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْأَوْثَانَ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=21أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى [ النَّجْمِ : 21 ] فَأَنْكَرَ اللَّهُ كُلَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ، وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ صَحِيحٌ ، فَلَمَّا تَأَوَّلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذِّكْرِ آلِهَتَهُمْ ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ ، وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ ، وَرَفَعَ تِلَاوَةَ تِلْكَ اللَّفْظَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ، وَجَدَ الشَّيْطَانُ بِهِمَا سَبِيلًا لِلْإِلْبَاسِ ، كَمَا نُسِخَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَرُفِعَتْ تِلَاوَتُهُ ، وَكَانَ فِي إِنْزَالِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِذَلِكَ حِكْمَةٌ ، وَفِي نَسْخِهِ حِكْمَةٌ ، لِيُضِلَّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ، وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=53لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=54وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [ الْحَجِّ : 53 ، 54 ] الْآيَةَ . .
وَقِيلَ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ ، وَبَلَغَ ذِكْرَ اللَّاتِ ، وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى خَافَ الْكُفَّارُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَمِّهَا فَسَبَقُوا إِلَى مَدْحِهَا بِتِلْكَ الْكَلِمَتَيْنِ لِيُخَلِّطُوا فِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَيُشَنِّعُوا عَلَيْهِ عَلَى عَادَتِهِمْ ، وَقَوْلِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=26لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [ فُصِّلَتْ : 26 ]
وَنُسِبَ هَذَا الْفِعْلُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِحَمْلِهِ لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَشَاعُوا ذَلِكَ وَأَذَاعُوهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ فَحَزِنَ لِذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ فَسَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=52وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ [ الْحَجِّ : 52 ] الْآيَةَ ، وَبَيَّنَ لِلنَّاسِ الْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْبَاطِلِ ، وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ ، وَدَفَعَ مَا لَبَّسَ بِهِ الْعَدُوُّ ، كَمَا ضَمِنَهُ - تَعَالَى - مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الْحِجْرِ : 9 ] .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ
يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَأَنَّهُ وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذابَ عَنْ رَبِّهِ ، فَلَمَّا تَابُوا كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ، فَقَالَ : لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا ، فَذَهَبَ مُغَاضِبًا .
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ
يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَهُمْ : إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ ، وَالدُّعَاءُ لَيْسَ بِخَبَرٍ يُطْلَبُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ ، لَكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ : إِنَّ الْعَذَابَ مُصَبِّحُكُمْ وَقْتَ كَذَا وَكَذَا ،
[ ص: 482 ] فَكَانَ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُمُ الْعَذَابَ ، وَتَدَارَكَهُمْ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=98إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ [ يُونُسَ : 98 ] الْآيَةَ . .
وَرُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ رَأَوْا دَلَائِلَ الْعَذَابِ ، وَمَخَايِلَهُ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : غَشَّاهُمُ الْعَذَابُ كَمَا يُغَشِّي الثَّوْبُ الْقَبْرَ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَمَا مَعْنَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=16436عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا ، وَصَارَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ : إِنِّي كُنْتُ أُصَرِّفُ مُحَمَّدًا حَيْثُ أُرِيدُ ، كَانَ يُمْلِي عَلَيَّ [ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ] فَأَقُولُ أَوْ [ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، كُلٌّ صَوَابٌ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989855اكْتُبْ كَذَا فَيَقُولُ : أَكْتُبُ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ وَيَقُولُ : اكْتُبْ عَلِيمًا حَكِيمًا ، فَيَقُولُ أَكْتُبُ : سَمِيعًا بَصِيرًا ، فَيَقُولُ لَهُ : اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
nindex.php?page=hadith&LINKID=989856أَنَّ نَصْرَانِيًّا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَمَا أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ، وَكَانَ يَقُولُ : مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ .
فَاعْلَمْ ثَبَّتَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ عَلَى الْحَقِّ ، وَلَا جَعَلَ لِلشَّيْطَانِ وَتَلْبِيسَهُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَيْنَا سَبِيلًا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَوَّلًا لَا تُوقِعُ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ رَيْبًا ، إِذْ هِيَ حِكَايَةٌ عَمَّنِ ارْتَدَّ ، وَكَفَرَ بِاللَّهِ ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ خَبَرَ الْمُسْلِمِ الْمُتَّهَمِ ، فَكَيْفَ بِكَافِرٍ افْتَرَى هُوَ وَمِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَرُسُلِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ! .
وَالْعَجَبُ لِسَلِيمِ الْعَقْلِ يَشْغَلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ سِرَّهُ ، وَقَدْ صَدَرَتْ مِنْ عَدُوٍّ كَافِرٍ مُبْغِضٍ لِلدِّينِ ، مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ ، وَرَسُولِهِ ، وَلَمْ تَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ شَاهَدَ مَا قَالَهُ ، وَافْتَرَاهُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=105إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ النَّحْلِ : 105 ] الْآيَةَ . .
[ ، وَمَا وَقَعَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي حَدِيثِ
أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، وَظَاهِرِ حِكَايَتِهَا ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَاهَدَهَا ، وَلَعَلَّهُ حَكَى مَا سَمِعَ .
وَقَدْ عَلَّلَ
الْبَزَّارُ حَدِيثَهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ : رَوَاهُ
ثَابِتٌ عَنْهُ ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ ، وَرَوَاهُ
حُمَيْدٌ عَنْ
أَنَسٍ ، قَالَ : وَأَظُنُّ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ
ثَابِتٍ .
قَالَ الْقَاضِي
أَبُو الْفَضْلِ ، - وَفَّقَهُ اللَّهُ - : وَلِهَذَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ حَدِيثَ
ثَابِتٍ ، وَلَا
حُمَيْدٍ . وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=16376عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ عَنْ
أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي خَرَّجَهُ أَهْلُ الصِّحَّةِ ، وَذَكَرْنَاهُ ، وَلَيْسَ فِيهِ عَنْ
أَنَسٍ قَوْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِلَّا مِنْ حِكَايَتِهِ عَنِ الْمُرْتَدِّ النَّصْرَانِيِّ ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا كَانَ فِيهَا قَدْحٌ ، وَلَا تَوْهِيمٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ ، وَلَا جَوَازٌ لِلنِّسْيَانِ ، وَالْغَلَطِ عَلَيْهِ ، وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا بَلَّغَهُ ، وَلَا طَعْنٌ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، إِذْ
[ ص: 483 ] لَيْسَ فِيهِ لَوْ صَحَّ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْكَاتِبَ قَالَ لَهُ : عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَكَتَبَهُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَذَلِكَ هُوَ فَسَبَقَهُ لِسَانُهُ أَوْ قَلَمُهُ لِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ مِمَّا نَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ قَبْلَ إِظْهَارِ الرَّسُولِ لَهَا ، إِذْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَمْلَاهُ الرَّسُولُ يَدُلُّ عَلَيْهَا ، وَيَقْتَضِي وُقُوعَهَا بِقُوَّةِ قُدْرَةِ الْكَاتِبِ عَلَى الْكَلَامِ ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ ، وَجَوْدَةِ حِسِّهِ ، وَفِطْنَتِهِ ، كَمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ لِلْعَارِفِ إِذَا سَمِعَ الْبَيْتَ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قَافِيَّتِهِ ، أَوْ مُبْتَدَأَ الْكَلَامِ الْحَسَنِ إِلَى مَا يَتِمُّ بِهِ ، وَلَا يَتَّفِقُ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ ، كَمَا لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فِي آيَةٍ ، وَلَا سُورَةٍ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كُلُّ صَوَابٍ إِنْ صَحَّ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَقَاطِعِ الْآيِ وَجْهَانِ ، وَقِرَاءَتَانِ أُنْزِلَتَا جَمِيعًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَمْلَى إِحْدَاهَا ، وَتَوَصَّلَ الْكَاتِبُ بِفِطْنَتِهِ ، وَمَعْرِفَتِهِ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ إِلَى الْأُخْرَى ، فَذَكَرَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، فَصَوَّبَهَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ أَحْكَمَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحْكَمَ ، وَنَسَخَ مَا نَسَخَ كَمَا قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَقَاطِعِ الْآيِ ، مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ الْمَائِدَةِ : 118 ] .
وَهَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ ، وَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ : [ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ] . وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ .
وَكَذَلِكَ كَلِمَاتٌ جَاءَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي غَيْرِ الْمَقَاطِعِ ، قَرَأَ بِهِمَا جَمِيعًا الْجُمْهُورُ ، وَثَبَتَتَا فِي الْمُصْحَفِ ، مِثْلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [ الْبَقَرَةِ : 259 ] ، وَنُنْشِزُهَا ، وَيَقْضِي الْحَقَّ ، وَيَقُصُّ الْحَقَّ .
وَكُلُّ هَذَا لَا يُوجِبُ رَيْبًا ، وَلَا يُسَبِّبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَلَطًا ، وَلَا وَهْمًا .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَكْتُبُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّاسِ غَيْرَ الْقُرْآنِ فَيَصِفُ اللَّهُ ، وَيُسَمِّيهِ فِي ذَلِكَ كَيْفَ يَشَاءُ .