الفصل الثامن : أفعاله الدنيوية - صلى الله عليه وسلم -
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=21393أفعاله - صلى الله عليه وسلم - الدنيوية فحكمه فيها من توقي المعاصي والمكروهات ما قدمناه ، ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه .
وكله غير قادح في النبوة ، بل إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد والصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات ، والقرب على ما بينا إذ كان - صلى الله عليه وسلم - لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورته ، وما يقيم رمق جسمه ، وفيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، ويقيم شريعته ، ويسوس أمته ، وما كان فيما بينه ، وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ، أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، وكل
[ ص: 529 ] هذا لاحق بصالح أعماله ، منتظم في زاكي وظائف عباداته ، وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الأحوال ، ويعد للأمور أشباهها ، فيركب في تصرفه لما قرب الحمار ، وفي أسفاره الراحلة ، ويركب البغلة في معارك الحرب دليلا على الثبات ، ويركب الخيل ، ويعدها ليوم الفزع ، وإجابة الصارخ .
وكذلك في لباسه ، وسائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ، ومصالح أمته .
وكذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته ، وسياسة وكراهية لخلافها ، وإن كان قد يرى غيره خيرا منه ، كما يترك الفعل لهذا ، وقد يرى فعله خيرا منه ، وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه ، كخروجه من
المدينة لأحد ، وكان مذهبه التحصن بها ،
nindex.php?page=treesubj&link=30566_21421وتركه قتل المنافقين ، وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، ورعاية للمؤمنين من قرابتهم ، وكراهة لأن يقول الناس : إن
محمدا يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ،
nindex.php?page=treesubj&link=21421_29270وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش ، وتعظيمهم لتغييرها ، وحذرا من نفار قلوبهم لذلك ، وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله ، فقال
لعائشة في الحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989941لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم .
ويفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيرا منه ، كانتقاله من أدنى مياه
بدر إلى أقربها للعدو من
قريش ، وكقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989942لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي .
ويبسط وجهه للكافر والعدو ؛ رجاء استئلافه .
nindex.php?page=treesubj&link=31780_30969ويصبر للجاهل ، ويقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989943إن nindex.php?page=treesubj&link=30484من شر الناس من اتقاه الناس لشره . ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ، ودين ربه . ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، ويتسمت في ملاءته ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، وحتى كأن على رءوس جلسائه
[ ص: 530 ] الطير ، ويتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ،
nindex.php?page=treesubj&link=30981_30980_30973ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويضحك مما يضحكون منه ، وقد وسع الناس بشره ، وعدله ، لا يستفزه الغضب ، ولا يقصر عن الحق ، ولا يبطن على جلسائه ، يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989918nindex.php?page=treesubj&link=23681ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .
فإن قلت : فما معنى قوله
لعائشة - رضي الله عنها - في الداخل عليه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989944بئس ابن العشيرة . فلما دخل ألان له القول ، وضحك معه ، فلما سألته عن ذلك قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989943إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره .
وكيف جاز أن يظهر له خلاف ما يبطن ، ويقول في ظهره ما قال ؟
فالجواب أن فعله - صلى الله عليه وسلم - كان استئلافا لمثله ، وتطييبا لنفسه ، ليتمكن إيمانه ويدخل في الإسلام بسببه أتباعه ، ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . وقد كان النبي يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=989945قال صفوان : لقد أعطاني ، وهو أبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي .
وقوله فيه : بئس ابن العشيرة هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ، ويحترز منه ، ولا يوثق بجانبه كل الثقة ، ولا سيما ، وكان مطاعا متبوعا .
ومثل هذا إذا كان لضرورة ، ودفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزا ، بل واجبا في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة ، والمزكين في الشهود .
فإن قيل : فما معنى المعضل الوارد في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=216بريرة من قوله - صلى الله عليه وسلم -
لعائشة ، وقد أخبرته أن موالي
nindex.php?page=showalam&ids=216بريرة أبوا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989946اشتريها ، واشترطي لهم الولاء .
ففعلت ، ثم قام خطيبا ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989947ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، nindex.php?page=treesubj&link=27668كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرها بالشرط لهم ، وعليه باعوا ، ولولاه ، والله أعلم لما باعوها من
عائشة ، كما لم
[ ص: 531 ] يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قد
nindex.php?page=treesubj&link=18527حرم الغش ، والخديعة .
فاعلم أكرمك الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ولتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989948اشترطي لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق الحديث ، ومع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=25أولئك لهم اللعنة [ الرعد : 25 ] . وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7وإن أسأتم فلها [ الإسراء : 7 ] .
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، ويكون قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .
ووجه ثان : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989948اشترطي لهم الولاء ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية ، والإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعهم بعد بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قبل
nindex.php?page=hadith&LINKID=989949أن الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .
وإلى هذا ذهب
الداودي ، وغيره ، وتوبيخ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ، وتقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا .
الوجه الثالث : أن معنى قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989948اشترطي لهم الولاء ، أي أظهري لهم حكمه ، وبيني سنته بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو - صلى الله عليه وسلم - مبينا ذلك ، وموبخا على مخالفة ما تقدم منه فيه .
فإن قيل : فما معنى فعل
يوسف - عليه السلام - بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله ، وأخذه باسم سرقتها ، وما جرى على إخوته في ذلك ، وقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70إنكم لسارقون [ يوسف : 70 ] ، ولم يسرقوا .
فاعلم أكرمك الله أن الآية تدل على أن فعل
يوسف كان عن أمر الله ، لقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=76كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله [ يوسف : 76 ] الآية .
فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .
وأيضا فإن
يوسف كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من وفقه ، ورغبته ، وعلى يقين من عقبى الخير له به ، وإزاحة السوء ، والمضرة عنه بذلك . وأما قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70أيتها العير إنكم لسارقون [ يوسف : 70 ] ، فليس من قول
يوسف . فيلزم عليه جواب يحل شبهه . ولعل قائله إن حسن له التأويل كائنا من كان ظن على صورة الحال ذلك ، وقد قيل : قال ذلك لفعلهم قبل
بيوسف ، وبيعهم له ، وقيل غير هذا ، ولا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم يأت أنهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، ولا يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم .
الْفَصْلُ الثَّامِنُ : أَفْعَالُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=21393أَفْعَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدُّنْيَوِيَّةُ فَحُكْمُهُ فِيهَا مِنْ تَوَقِّي الْمَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَاتِ مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَمِنْ جَوَازِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ فِي بَعْضِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَكُلُّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي النُّبُوَّةِ ، بَلْ إِنَّ هَذَا فِيهَا عَلَى النُّدُورِ ، إِذْ عَامَّةُ أَفْعَالِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ ، بَلْ أَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعِبَادَاتِ ، وَالْقُرَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إِذْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْخُذُ مِنْهَا لِنَفْسِهِ إِلَّا ضَرُورَتَهُ ، وَمَا يُقِيمُ رَمَقَ جِسْمِهِ ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ ذَاتِهِ الَّتِي بِهَا يَعْبُدُ رَبَّهُ ، وَيُقِيمُ شَرِيعَتَهُ ، وَيَسُوسُ أُمَّتَهُ ، وَمَا كَانَ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَبَيْنَ مَعْرُوفٍ يَصْنَعُهُ ، أَوْ بِرٍّ يُوَسِّعُهُ ، أَوْ كَلَامٍ حَسَنٍ يَقُولُهُ أَوْ يُسْمِعُهُ ، أَوْ تَأَلُّفِ شَارِدٍ ، أَوْ قَهْرِ مُعَانِدٍ ، أَوْ مُدَارَاةِ حَاسِدٍ ، وَكُلُّ
[ ص: 529 ] هَذَا لَاحِقٌ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِ ، مُنْتَظِمٌ فِي زَاكِي وَظَائِفِ عِبَادَاتِهِ ، وَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ فِي أَفْعَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَيُعِدُّ لِلْأُمُورِ أَشْبَاهَهَا ، فَيَرْكَبُ فِي تَصَرُّفِهِ لِمَا قَرُبَ الْحِمَارَ ، وَفِي أَسْفَارِهِ الرَّاحِلَةَ ، وَيَرْكَبُ الْبَغْلَةَ فِي مَعَارِكَ الْحَرْبِ دَلِيلًا عَلَى الثَّبَاتِ ، وَيَرْكَبُ الْخَيْلَ ، وَيُعِدُّهَا لِيَوْمِ الْفَزَعِ ، وَإِجَابَةِ الصَّارِخِ .
وَكَذَلِكَ فِي لِبَاسِهِ ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ مَصَالِحِهِ ، وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُسَاعَدَةً لِأُمَّتِهِ ، وَسِيَاسَةً وَكَرَاهِيَةً لِخِلَافِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ ، كَمَا يَتْرُكُ الْفِعْلَ لِهَذَا ، وَقَدْ يَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْهُ ، وَقَدْ يَفْعَلُ هَذَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِمَّا لَهُ الْخِيَرَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ ، كَخُرُوجِهِ مِنَ
الْمَدِينَةِ لِأُحُدٍ ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ التَّحَصُّنَ بِهَا ،
nindex.php?page=treesubj&link=30566_21421وَتَرْكِهِ قَتْلَ الْمُنَافِقِينَ ، وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ مُؤَالَفَةً لِغَيْرِهِمْ ، وَرِعَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ ، وَكَرَاهَةً لِأَنْ يَقُولَ النَّاسُ : إِنَّ
مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=21421_29270وَتَرْكِهِ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مُرَاعَاةً لِقُلُوبِ قُرَيْشٍ ، وَتَعْظِيمِهِمْ لِتَغْيِيرِهَا ، وَحَذَرًا مِنْ نِفَارِ قُلُوبِهِمْ لِذَلِكَ ، وَتَحْرِيكِ مُتَقَدِّمِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ ، فَقَالَ
لِعَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989941لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ .
وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ ثُمَّ يَتْرُكُهُ ، لِكَوْنِ غَيْرِهِ خَيْرًا مِنْهُ ، كَانْتِقَالِهِ مِنْ أَدْنَى مِيَاهِ
بِدْرٍ إِلَى أَقْرَبِهَا لِلْعَدُوِّ مِنْ
قُرَيْشٍ ، وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989942لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتَ الْهَدْيَ .
وَيَبْسُطُ وَجْهَهُ لِلْكَافِرِ وَالْعَدُوِّ ؛ رَجَاءَ اسْتِئْلَافِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=31780_30969وَيَصْبِرُ لِلْجَاهِلِ ، وَيَقُولُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989943إِنَّ nindex.php?page=treesubj&link=30484مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ . وَيَبْذُلُ لَهُ الرَّغَائِبَ لِيُحَبِّبَ إِلَيْهِ شَرِيعَتَهُ ، وَدِينَ رَبِّهِ . وَيَتَوَلَّى فِي مَنْزِلِهِ مَا يَتَوَلَّى الْخَادِمُ مِنْ مِهْنَتِهِ ، وَيَتَسَمَّتُ فِي مُلَاءَتِهِ ، حَتَّى لَا يَبْدُوَ شَيْءٌ مِنْ أَطْرَافِهِ ، وَحَتَّى كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِ جُلَسَائِهِ
[ ص: 530 ] الطَّيْرَ ، وَيَتَحَدَّثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بِحَدِيثِ أَوَّلِهِمْ ،
nindex.php?page=treesubj&link=30981_30980_30973وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، وَقَدْ وَسِعَ النَّاسَ بِشْرُهُ ، وَعَدْلُهُ ، لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ ، وَلَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ ، وَلَا يُبْطِنُ عَلَى جُلَسَائِهِ ، يَقُولُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989918nindex.php?page=treesubj&link=23681مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ
لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الدَّاخِلِ عَلَيْهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989944بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ . فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ ، وَضَحِكَ مَعَهُ ، فَلَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989943إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ .
وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ ، وَيَقُولُ فِي ظَهْرِهِ مَا قَالَ ؟
فَالْجَوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ اسْتِئْلَافًا لِمِثْلِهِ ، وَتَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ ، لِيَتَمَكَّنَ إِيمَانُهُ وَيَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِهِ أَتْبَاعُهُ ، وَيَرَاهُ مِثْلُهُ فَيَنْجَذِبَ بِذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ . وَمِثْلُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَدِّ مُدَارَاةِ الدُّنْيَا إِلَى السِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ يَسْتَأْلِفُهُمْ بِأَمْوَالِ اللَّهِ الْعَرِيضَةِ فَكَيْفَ بِالْكَلِمَةِ اللَّيِّنَةِ ؟ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=989945قَالَ صَفْوَانُ : لَقَدْ أَعْطَانِي ، وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى صَارَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيَّ .
وَقَوْلُهُ فِيهِ : بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ هُوَ غَيْرُ غِيبَةٍ ، بَلْ هُوَ تَعْرِيفُ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لِيَحْذَرَ حَالَهُ ، وَيُحْتَرَزَ مِنْهُ ، وَلَا يُوثَقَ بِجَانِبِهِ كُلَّ الثِّقَةِ ، وَلَا سِيَّمَا ، وَكَانَ مُطَاعًا مَتْبُوعًا .
وَمِثْلُ هَذَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ ، وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ بِغِيبَةٍ ، بَلْ كَانَ جَائِزًا ، بَلْ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَعَادَةِ الْمُحَدِّثِينَ فِي تَجْرِيحِ الرُّوَاةِ ، وَالْمُزَكِّينَ فِي الشُّهُودِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى الْمُعْضِلِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=216بِريرَةَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِعَائِشَةَ ، وَقَدْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ مَوَالِيَ
nindex.php?page=showalam&ids=216بَرِيرَةَ أَبَوْا بَيْعَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989946اشْتَرِيهَا ، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ .
فَفَعَلَتْ ، ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا ، فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989947مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، nindex.php?page=treesubj&link=27668كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَهَا بِالشَّرْطِ لَهُمْ ، وَعَلَيْهِ بَاعُوا ، وَلَوْلَاهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمَا بَاعُوهَا مِنْ
عَائِشَةَ ، كَمَا لَمْ
[ ص: 531 ] يَبِيعُوهَا قَبْلُ حَتَّى شَرَطُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَهُوَ قَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=18527حَرَّمَ الْغِشَّ ، وَالْخَدِيعَةَ .
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقَعُ فِي بَالِ الْجَاهِلِ مِنْ هَذَا وَلِتَنْزِيهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ مَا قَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ : قَوْلَهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989948اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ، إِذْ لَيْسَتْ فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ ، وَمَعَ ثَبَاتِهَا فَلَا اعْتِرَاضَ بِهَا ، إِذْ يَقَعُ لَهُمْ بِمَعْنَى عَلَيْهِمْ ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=25أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ [ الرَّعْدِ : 25 ] . وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [ الْإِسْرَاءِ : 7 ] .
فَعَلَى هَذَا اشْتَرِطِي عَلَيْهِمُ الْوَلَاءَ لَكِ ، وَيَكُونُ قِيَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَوَعْظُهُ لِمَا سَلَفَ مِنْ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ : أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989948اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ ، لَكِنْ عَلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ شَرْطَهُ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ بَعْدَ بَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ قَبْلُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=989949أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : اشْتَرِطِي أَوْ لَا تَشْتَرِطِي ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ نَافِعٍ .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الدَّاوُدِيُّ ، وَغَيْرُهُ ، وَتَوْبِيخُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ ، وَتَقْرِيعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِمْ بِهِ قَبْلَ هَذَا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989948اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ، أَيْ أَظْهِرِي لَهُمْ حُكْمَهُ ، وَبَيِّنِي سُنَّتَهُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَعْتَقَ . ثُمَّ بَعُدَ هَذَا قَامَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا ذَلِكَ ، وَمُوَبِّخًا عَلَى مُخَالَفَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى فِعْلِ
يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَخِيهِ ، إِذْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِهِ ، وَأَخَذَهُ بِاسْمِ سَرِقَتِهَا ، وَمَا جَرَى عَلَى إِخْوَتِهِ فِي ذَلِكَ ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [ يُوسُفَ : 70 ] ، وَلَمْ يَسْرِقُوا .
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ
يُوسُفَ كَانَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=76كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [ يُوسُفَ : 76 ] الْآيَةَ .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ ، كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ
يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ أَخَاهُ بِأَنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ ، فَكَانَ مَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا مِنْ وَفْقِهِ ، وَرَغْبَتِهِ ، وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ عُقْبَى الْخَيْرِ لَهُ بِهِ ، وَإِزَاحَةِ السُّوءِ ، وَالْمَضَرَّةِ عَنْهُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [ يُوسُفَ : 70 ] ، فَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ
يُوسُفَ . فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ جَوَابٌ يَحِلُّ شُبَهَهُ . وَلَعَلَّ قَائِلَهُ إِنْ حُسِّنَ لَهُ التَّأْوِيلُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ظَنَّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ ذَلِكَ ، وَقَدْ قِيلَ : قَالَ ذَلِكَ لِفِعْلِهِمْ قَبْلُ
بِيُوسُفَ ، وَبَيْعِهِمْ لَهُ ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ نُقَوِّلَ الْأَنْبِيَاءَ مَا لَمْ يَأْتِ أَنَّهُمْ قَالُوهُ ، حَتَّى يُطْلَبَ الْخَلَاصُ مِنْهُ ، وَلَا يَلْزَمُ الِاعْتِذَارُ عَنْ زَلَّاتِ غَيْرِهِمْ .