( فصل ) :
وأما حكم اليمين بالله تعالى فيختلف باختلاف اليمين أما فحكمها وجوب الكفارة لكن بالتوبة والاستغفار لأنها جرأة عظيمة حتى قال : الشيخ يمين الغموس أبو منصور الماتريدي كان القياس عندي أن المتعمد بالحلف على الكذب يكفر لأن اليمين بالله تعالى جعلت للتعظيم لله - تعالى - والحالف بالغموس مجترئ على الله - عز وجل - مستخف به ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء والطواغيت لأن في ذلك تعظيما لهم وتبجيلا فالوزر له في الجراءة على الله أعظم وهذا لأن التعمد بالحلف كاذبا على المعرفة بأن الله - عز وجل - يسمع استشهاده بالله كاذبا - مجترئ على الله - سبحانه وتعالى - ومستخف به وإن كان غيره يزعم أنه ذكر على طريق التعظيم وسبيل هذا سبيل أهل النفاق أن إظهارهم الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - استخفاف بالله تعالى لما كان اعتقادهم بخلاف ذلك وإن كان ذلك القول تعظيما في نفسه وصدقا في الحقيقة تلزمهم العقوبة لما فيه من الاستخفاف وكذا هذا ولكن نقول لا يكفر بهذا لأن فعله وإن خرج مخرج الجراءة على الله تعالى والاستخفاف به من حيث الظاهر لكن غرضه الوصول إلى مناه وشهوته لا القصد إلى ذلك وعلى هذا يخرج قول رحمه الله تعالى في سؤال السائل إن العاصي يطيع الشيطان ومن أطاع الشيطان فقد كفر كيف لا يكفر العاصي ؟ فقال لأن فعله وإن خرج مخرج الطاعة للشيطان لكن ما فعله قصدا إلى طاعته وإنما يكفر بالقصد إذ الكفر عمل القلب لا بما يخرج فعله فعل معصية فكذلك الأول . أبي حنيفة
وأما الكفارة المعهودة وهي الكفارة بالمال فلا تجب عندنا ، وعند تجب احتج بقوله تعالى { الشافعي لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } نفى المؤاخذة باليمين اللغو في [ ص: 16 ] الأيمان وأثبتها بما كسب القلب ، ويمين الغموس مكسوبة بالقلب فكانت المؤاخذة ثابتة بها إلا أن الله تعالى أبهم المؤاخذة في هذه الآية الشريفة أنها بالإثم أو بالكفارة المعهودة لكن فسر في الأخرى أن المؤاخذة بالكفارة المعهودة وهي قوله - عز وجل - { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } الآية فعلم أن المراد من المؤاخذة المذكورة في تلك الآية هذه المؤاخذة ، وبقوله - عز وجل - { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } الآية أثبت المؤاخذة في اليمين المعقودة بالكفارة المعهودة ، ويمين الغموس معقودة لأن اسم العقد يقع على عقد القلب وهو العزم والقصد وقد وجد بقوله - عز وجل - في آخر الآية الكريمة { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } جعل الكفارة المعهودة كفارة الأيمان على العموم خص منه يمين اللغو فمن ادعى تخصيص العموم فعليه الدليل مع ما أن أحق ما يراد به الغموس لأنه علق الوجوب بنفس الحلف دون الحنث وذلك هو الغموس إذ الوجوب في غيره يتعلق بالحنث .
( ولنا ) قوله - سبحانه وتعالى - { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } الآية وروي عن رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { عبد الله بن مسعود } وروي عن من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { جابر بن عبد الله } والاستدلال بالنصوص أن الله تعالى جعل موجب الغموس العذاب في الآخرة فمن أوجب الكفارة فقد زاد على النصوص فلا يجوز إلا بمثلها وما روي عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أنه قال للمتلاعنين بعد فراغهما من اللعان : { من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار } دعاهما إلى التوبة لا إلى الكفارة المعهودة ومعلوم أن حاجتهما إلى بيان الكفارة المعهودة لو كانت واجبة كانت أشد من حاجتهما إلى بيان كذب أحدهما وإيجاب التوبة لأن وجوب التوبة بالذنب يعرفه كل عاقل بمجرد العقل من غير معونة السمع ، والكفارة المعهودة لا تعرف إلا بالسمع فلما لم يبين مع أن الحال حال الحاجة إلى البيان دل أنها غير واجبة . الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب
وكذا الحديث الذي روي في الخصمين أنه قضى لأحدهما وذكر فيه الوعيد الشديد أن يأخذه وهو غير الحق في ذلك ثم أمرهما صلى الله عليه وسلم بالاستهام وأن يحلل كل واحد منهما صاحبه ولم يبين الكفارة والموضع موضع الحاجة إلى البيان لو كانت واجبة فعلم أنها غير واجبة ولأن وجوب الكفارة المعهودة حكم شرعي فلا يعرف إلا بدليل شرعي وهو النص أو الإجماع أو القياس ولم يوجد وأقوى الدلائل في نفي الحكم نفي دليله أما الإجماع فظاهر الانتفاء وكذا النص القاطع لأن أهل الديانة لا يختلفون في موضع فيه نص قاطع ، والنص الظاهر وجب العمل به أيضا وإن كان لا يجب الاعتقاد قطعا فلا يقع الاختلاف ظاهرا في الاستدلال باليمين المعقودة ومن شرطه التساوي ولم يوجد لأن الذنب في يمين الغموس أعظم وما صلح لدفع أدنى الذنبين لا يصلح لرفع أعلاهما ، ولهذا قال : إسحاق في يمين الغموس أجمع المسلمون على أنه لا يجب الكفارة فيها فقول من يوجبها ابتداء شرع ونصب حكم على الخلق وهو لم يشرك في حكمه أحدا ولا حجة له في قوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } لأن مطلق المؤاخذة في الجنايات يراد بها المؤاخذة في الآخرة لأنها حقيقة المؤاخذة والجزاء .
فأما المؤاخذة في الدنيا فقد تكون خيرا وتكفيرا فلا تكون مؤاخذة معنى ونحن به نقول : إن المؤاخذة بيمين الغموس ثابتة في الآخرة ولأن قوله تعالى - يؤاخذكم إخبار أنه يؤاخذ .
فأما قضية المؤاخذة فليست بمذكورة فيستدعي نوع مؤاخذة ، والمؤاخذة بالاسم مرادة من هذه الآية فلا يكون غيره مرادا إذا .
وأما قوله تعالى - { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } فالمراد منه اليمين على أمر في المستقبل ، لأن العقد هو الشد والربط في اللغة ، ومنه عقد الحبل وعقد الحمل ، وانعقاد الرق وهو ارتباط بعضه ببعض وقد يذكر ويراد به العهد وكل ذلك لا يتحقق إلا في المستقبل ، ولأن الآية قرئت بقراءتين بالتشديد والتخفيف ، والتشديد لا يحتمل إلا عقد اللسان وهو عقد القول والتخفيف يحتمل العقد باللسان والعقد بالقلب وهو العزم والقصد ، فكانت قراءة التشديد محكمة في الدلالة على إرادة العقد باللسان والقراءة بالتخفيف محتملة فيرد المحتمل إلى المحكم ليكون عملا بالقراءتين على الموافقة [ ص: 17 ] والدليل على أن المراد من الآية الكريمة اليمين على أمر في المستقبل أنه علق الكفارة فيها بالحلف والحنث عرفنا ذلك بقراءة رضي الله عنه إذا حلفتم وحنثتم والحنث لا يتصور إلا في اليمين على أمر في المستقبل . عبد الله بن مسعود
وكذا قوله تعالى { واحفظوا أيمانكم } وحفظ اليمين إنما يتصور في المستقبل لأن ذلك تحقيق البر والوفاء بالعهد وإنجاز الوعد وهذا لا يتصور في الماضي والحال والله - عز وجل - الموفق .