الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو حلف لا يطأ هذه الدار بقدمه فدخلها راكبا يحنث ; لأنه قد يراد به الدخول في العرف لا مباشرة قدمه الأرض .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لو كان في رجله حذاء نعل يحنث ؟ فعلم أن المراد منه الدخول ، وإن حلف لا يضع قدمه في هذه الدار فدخلها راكبا حنث لأن وضع القدم في عرف الاستعمال صار عبارة عن الدخول فإن كان نوى أن لا يضع قدمه ماشيا فهو على ما نوى ; لأنه نوى حقيقة كلامه فيصدق ، وكذلك إذا دخلها ماشيا وعليه حذاء أو لا حذاء عليه لما قلنا .

                                                                                                                                وروى هشام عن محمد فيمن حلف لا يدخل هذه الدار فدخل حانوتا مشرعا من هذه الدار إلى الطريق وليس له باب في الدار فإنه يحنث ; لأنه من جملة ما أحاطت به الدائرة .

                                                                                                                                قال هشام : وسألت أبا يوسف إن دخل بستانا في تلك الدار قال لا يحنث وهذا محمول على بستان متصل بالدار فإن كان في وسط الدار يحنث لإحاطة الدائرة به ، هكذا روي عن محمد .

                                                                                                                                وقال ابن سماعة في نوادره عن محمد في رجل حلف لا يدخل دار فلان فحفر سربا فبلغ داره وحفر تحت دار فلان حتى جاوزها فدخل الحالف ذلك السرب حتى مضى فيه تحت دار فلان فإنه لا يحنث [ ص: 40 ] إلا أن يكون من هذه القناة مكان مكشوف إلى الدار يستقي منه أهل الدار فدخل الحالف القناة فبلغ ذلك المكشوف فيحنث ، وإن لم يبلغ لم يحنث ، وإن كان المكشوف شيئا قليلا لا ينتفع به أهل الدار وإنما هو للضوء فمر الحالف بالقناة حتى بلغ الموضع فليس بحانث لأن القناة تحت الدار إذا لم يكن منفذ لا تعد من الدار ; لأن المقصود من دخول داره إما كرامة وإما هتك حرمة وذاك لا يوجد فيما لا منفذ له ، وإذا كان لها منفذ يستقى منه الماء فإنه يعد من مرافق الدار بمنزلته بئر الماء فإذا بلغ إليه كان كمن دخل في بئر داره ، وإذا كان لا ينتفع به إلا للضوء لا يكون من مرافق الدار فلا يصير بدخوله داخلا في الدار فلا يحنث ، ولو دخل فلان سربا تحت داره وجعله بيوتا وجعل له أبوابا إلى الطريق فدخلها رجل حلف لا يدخل دار فلان فهو حانث ; لأن السرب تحت الدار من بيوت الدار ، ولو عمد فلان إلى بيت من داره أو بيتين فسد أبوابهما من قبل داره وجعل أبوابها إلى دار الحالف فدخل الحالف هذين البيتين فإنه لا يحنث ; لأنه لما جعل أبوابهما إلى دار الحالف فقد صارت منسوبة إلى الدار الأخرى .

                                                                                                                                وقال ابن سماعة في السرب : إذا كان بابه إلى الدار ومحتفره في دار أخرى إنه من الدار التي مدخله إليها وبابه إليها لأنه بيت من بيوتها .

                                                                                                                                وقال ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل حلف لا يدخل بغداد فانحدر من الموصل في سفينة فمر بدجلة لا يحنث ، فإن خرج فمضى فمشى على الجسر حنث ، وإن قدم إلى الشط ولم يخرج لم يحنث ، ولم يكن مقيما إن كان أهله ببغداد ، وإن خرج إلى الشط حنث .

                                                                                                                                وقال ابن سماعة عن محمد إذا انحدر في سفينة من الموصل إلى البصرة فمر في شط الدجلة فهو حانث فصارت المسألة مختلفة بينهما .

                                                                                                                                وجه قول محمد أن الدجلة من البلد بدليل أنه لو عقد عليها جسر كانت من البلد فكذا إذا حصل في هذا الموضع في سفينة ، ولأبي يوسف أن موضع الدجلة ليس موضع قرار فلا يكون مقصودا بعقد اليمين على الدخول فلا تنصرف اليمين إليه .

                                                                                                                                قال بشر عن أبي يوسف في رجل قال لامرأته إن دخلت هذه الدار ولم تعطني ثوب كذا فأنت طالق فدخلت الدار ثم أعطته الثوب بعد ذلك فإن الطلاق يقع عليها ، وإن كانت أعطته الثوب قبل أن تدخل لم يقع عليها الطلاق لأنه جعل شرط وقوع الطلاق دخولها الدار لا على صفة الإعطاء ، وهو أن لا يكون الزوج معطى حال الدخول ; لأن هذه الواو للحال بمنزلة قوله إن دخلت الدار وأنت راكبة أنه يعتبر كونها راكبة حال الدخول ولا يعتبر الركوب بعده كذا هذا ، وكذلك لو قال : إن خرجت ولم تأكلي أو خرجت وليس عليك إزار أو خرجت ولم تتخمري لما قلنا ، ولو قال لها إن لم تعطني هذا الثوب ودخلت هذه الدار فأنت طالق ولا نية له فإن الطلاق لا يقع عليها حتى يجتمع الأمران جميعا وهو أن لا تعطيه الثوب إلى أن يموت أحدهما أو يهلك الثوب ويدخل الدار فإذا اجتمع هذان وقع الطلاق وإلا فلا ; لأنه جعل ترك العطية والدخول جميعا شرطا لوقوع الطلاق ; لأن قوله ودخلت الدار شرط معطوف على ترك العطية وليس بوصف له ; فيتعلق وقوع الطلاق بوجودهما ثم لا يتحقق الترك إلا بموت أحدهما أو بهلاك الثوب ، فإذا مات أحدهما أو هلك الثوب ودخلت الدار فقد وجد الشرطان فيحنث ، ولو قال : والله لا تدخلين هذه الدار ولا تعطيني هذا الثوب فأيهما فعلت حنث ; لأن كلمة النفي دخلت على كل واحد منهما على الانفراد فيقتضي انتفاء كل واحد منهما على الانفراد كما في قوله تعالى - { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } ومن هذا الجنس ما روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال : والله لا أشتري بهذا الدرهم غير لحم فاشترى بنصفه لحما وبنصفه خبزا يحنث استحسانا ولا يحنث في القياس .

                                                                                                                                وجه القياس أنه جعل شرط حنثه أن يشتري بجميع الدرهم غير اللحم وما اشترى بجميعه بل ببعضه فلم يوجد شرط الحنث فلا يحنث .

                                                                                                                                وجه الاستحسان أن مبنى الأيمان على العادة وعادة الناس أنهم يريدون بمثل هذا الكلام أن يشتري الحالف بجميع الدرهم اللحم ولم يشتر بجميعه اللحم فيحنث ، فإن كان نوى أن لا يشتري به كله غير اللحم لم يحنث ، ويدين في القضاء لأنه نوى ظاهر كلامه فيصدق ، ولو قال : والله لا أشتري بهذا الدرهم إلا لحما فلا يحنث حتى يشتري بالدرهم كله غير لحم وهذا يؤيد وجه القياس في المسألة الأولى ; لأن إلا وغير كلاهما من ألفاظ الاستثناء ، وإنا نقول : قضية القياس هذا في المسألة الأولى ألا ترى أنه لو نوى أن يشتري به كله غير اللحم صدق في القضاء لأنا تركنا هذا القياس هناك [ ص: 41 ] للعرف والعادة ولا عرف ههنا يخالف القياس فعمدنا للقياس فيه ، ولو قال : والله لا أشتري بهذا الدرهم إلا ثلاثة أرطال لحم فاشترى ببعض الدرهم لحما أقل من ثلاثة أرطال وببقيته غير لحم حنث ; لأن قوله والله لا أشتري بهذا الدرهم يقع على كل شراء بهذا الدرهم ثم استثنى من هذه الجملة شراء بصفة وهو أن يشتري به ثلاثة أرطال ولم يوجد فلم يوجد المستثنى فبقي ما شراه داخلا في اليمين فيحنث به ، ومن هذا القبيل ما إذا قال لرجلين : والله لا تبيتان إلا في بيت فبات أحدهما في بيت والآخر في بيت آخر حنث لأنه جعل شرط حنثه بيتوتتهما جميعا في غير بيت واحد وقد باتا في غير بيت واحد لأنهما باتا في بيتين فوجد شرط الحنث فهو الفرق .

                                                                                                                                وذكر محمد في الجامع في رجل قال : إن كنت ضربت هذين الرجلين إلا في دار فلان فعبدي حر وقد ضرب واحدا منهما في دار فلان وواحدا في غيرها فإنه لا يحنث لأنه جعل شرط حنثه ضربهما في غير دار فلان ولم يوجد ، ولو قال : إن لم أكن ضربته هذين السوطين في دار فلان فعبدي حر ، والمسألة بحالها حنث ; لأن شرط الحنث أن يجتمع الشرطان في دار فلان ولم يجتمعا فيحنث ، ولو حلف لا يدخل على فلان فدخل عليه بيته فإن قصده بالدخول يحنث ، وإن لم يقصده لا يحنث ، وكذلك إذا دخل عليه بيت غيره ، وإنما اعتبر القصد ليكون داخلا عليه ; لأن الإنسان إنما يحلف أن لا يدخل على غيره استخفافا به وتركا لإكرامه عادة وذا لا يكون إلا مع القصد .

                                                                                                                                وذكر الكرخي عن ابن سماعة في نوادره خلاف هذا فقال في رجل قال والله لا أدخل على فلان بيتا فدخل بيتا على قوم وفيهم فلان ولم يعلم به الحالف فإنه حانث بدخوله فلم يعتبر القصد للدخول على فلان لاستحالة القصد بدون العلم ، ووجهه أنه جعل شرط الحنث الدخول على فلان والعلم بشرط الحنث ليس بشرط في الحنث كمن حلف لا يكلم زيدا فكلمه وهو لا يعرف أنه زيد ، وظاهر المذهب ما تقدم ، ولو علم أنه فيهم فدخل ينوي الدخول على القوم لا عليه لا يحنث فيما بينه وبين الله - عز وجل - لأنه إذا قصد غيره لم يكن داخلا عليه ولا يصدق في القضاء ; لأن الظاهر دخوله على الجماعة وما في اعتقاده لا يعرفه القاضي ، فإن دخل عليه في مسجد أو ظلة أو سقيفة أو دهليز دار لم يحنث لأن ذلك يقع على الدخول المعتاد وهو الذي يدخل الناس بعضهم على بعض ولا يكون ذلك إلا في البيوت ، فإن دخل عليه في فسطاط أو خيمة أو بيت شعر لم يحنث إلا أن يكون الحالف من أهل البادية لأنهم يسمون ذلك بيتا ، والتعويل في هذا الباب على العرف والعادة

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية