ولما كان الله سبحانه وتعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من [ ص: 27 ] الفساد إما في العقول أو الأخلاق أو غيرها ، ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة من النقص بقدر ما فيها من المفسدة ، ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة .
ثم إن وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات ، مثل : الإمام أحمد فإنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع ، ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : لحوم الإبل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه إنها جن خلقت من جن أبو داود : فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان ، فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها ، كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ، جابر بن سمرة ، والبراء بن عازب ، وأسيد بن الحضير وذي [ ص: 28 ] الغرة وغيرهم ، فقال مرة : ، فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين لأكلها من غير وضوء - كالأعراب - من الحقد وقسوة القلب التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله المخرج عنه في الصحيحين : توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم ، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل . إن الغلظة وقسوة القلوب في الفدادين أصحاب الإبل ، وإن السكينة في أهل الغنم
واختلف عن أحمد : على روايتين ، بناء على أن الحكم مختص بها ، أو أن المحرم أولى بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة . هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة ؟
وسائر المصنفين من أصحاب وغيره وافقوا الشافعي أحمد على هذا الأصل ، وعلموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد ؛ لأنه فرق في الحديث بين اللحمين ، ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع .
وكذلك قالوا بما اقتضاه الحديث : من أنه يتوضأ منه نيئا ومطبوخا ؛ ولأن هذا الحديث كان بعد النسخ ، ولهذا ؛ ولأن النسخ لم يثبت إلا بالترك من لحم غنم ، فلا عموم له ، وهذا معنى قول قال في لحم الغنم : وإن شئت فلا تتوضأ جابر : " " فإنه رآه يتوضأ ، ثم رآه أكل لحم غنم ولم يتوضأ ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغة عامة في ذلك ، ولو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينا ، وهو أصل لا يقول به أكثر المالكية والشافعية والحنبلية . كان آخر الأمرين [ ص: 29 ] منه : ترك الوضوء مما مست النار
هذا مع أن أحاديث لم يثبت أنها منسوخة ، بل قد قيل : إنها متأخرة ، ولكن أحد الوجهين في مذهب الوضوء مما مست النار أحمد : أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب ، والوجه الآخر : لا يستحب .
فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : ، وقال : إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه . فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه ؛ فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة ، فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل . إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده
وكذلك نهى عن وقال : الصلاة في أعطان الإبل ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنها جن خلقت من جن المقبرة والحمام ، وقد روي عنه : الأرض كلها مسجد [ ص: 30 ] إلا أن الحمام بيت الشيطان ، وثبت عنه أنه . لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال : إنه مكان حضرنا فيه الشيطان
فعلل صلى الله عليه وسلم الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة ، وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث ، ومذهبه الظاهر عنه أن ما كان مأوى للشياطين - كالمعاطن والحمامات - حرمت [ ص: 31 ] الصلاة فيه ، وما عرض الشيطان فيه - كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة - كرهت فيه الصلاة .
والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك : إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم ، أو سمعوها ولم يعرفوا العلة فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه .
وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل ، وأنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل : فقد غلط عليهم ، وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم : " أنهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار " ، وإنما المراد أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب الوضوء ، والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار ، كما يقال : كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر ، وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي .