وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء - مع وجود الاختلاف في قول كل منهما : - أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد ، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله ، وإن لم يكن مطابقا ، لكن اعتقادا ليس بيقيني ، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل ، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا ، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط ، أو باتباع الظاهر ، فيعتقد ما دل عليه ذلك ، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا ، فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد ، وإن كان قد يكون غير مطابق ، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط .
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع [ ص: 187 ] قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة : عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا ، بخلاف أصحاب الأهواء ، فإنهم ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [النجم : 23] ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض ، مع عدم العلم بجزمه ، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده ، لا باطنا ولا ظاهرا ، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده ، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به ، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه ، فكانوا ظالمين ، شبيها بالمغضوب عليهم ، أو جاهلين ، شبيها بالضالين .
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق ، وقد سلك طريقه ، وأما متبع الهوى المحض : فهو من يعلم الحق ويعاند عنه .
وثم قسم آخر - وهم غالب الناس - وهو أن يكون له هوى ، وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة ، فتجتمع الشهوة والشبهة ، ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات .
فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور ، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب ، وأما : فهو مسيء ، وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب ، وبحسب الحسنات الماحية . المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى
وأكثر المتأخرين - من المنتسبين إلى فقه أو تصوف - مبتلون بذلك .
[ ص: 188 ]