المسألة الخامسة : اختلفوا في أن
nindex.php?page=treesubj&link=23466المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية : التطوع ، أو الواجب ، أو مجموعهما .
فالقول الأول ، وهو قول الأكثرين : أن المراد منه صدقة التطوع ، قالوا : لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل ، والإظهار في الزكاة أفضل ، وفيه بحثان :
البحث الأول : في أن
nindex.php?page=treesubj&link=26093الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه أو إظهاره . فلنذكر أولا الوجوه الدالة على أن إخفاءه أفضل :
فالأول : أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة ، قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=treesubj&link=19696_18692_30314_23515لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان " والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما ، وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء ، واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى ، وبعضهم يلقيه في طريق الفقير ، وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي ، وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم ، وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره ، والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة ؛ لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معا ، وليس في معرفة المتوسط الرياء .
وثانيها : أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم ، فكان ذلك يشق على النفس ، فوجب أن يكون ذلك أكثر ثوابا .
وثالثها : قوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012017nindex.php?page=treesubj&link=26093أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر " وقال أيضا : "
إن العبد ليعمل عملا في السر يكتبه الله له سرا فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية ، وكتب في الرياء " وفي الحديث المشهور : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012019سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله : أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه " وقال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012020صدقة السر تطفئ غضب الرب " .
ورابعها : أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه ، والإخفاء لا يتضمن ذلك ، فوجب أن يكون الإخفاء أولى ، وبيان تلك المضار من وجوه :
الأول : أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره ، وربما لا يرضى الفقير بذلك .
والثاني : أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال ، والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ) [البقرة : 273] .
والثالث : أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة ، ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها ، فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة .
والرابع : أن في إظهار الإعطاء إذلالا للآخذ وإهانة له ، وإزلال المؤمن غير جائز .
والخامس : أن الصدقة جارية مجرى الهدية ، وقال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012021من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها " وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئا إلى
[ ص: 65 ] شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى .
وأما الوجه في جواز
nindex.php?page=treesubj&link=26093_23510إظهار الصدقة ، فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها صار ذلك سببا لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات ، فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل , وروى
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
السر أفضل من العلانية , والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به " قال
nindex.php?page=showalam&ids=13948محمد بن عيسى الحكيم الترمذي : الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق ، والقلب ينكر ذلك ويدفعه ، فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفا على العلانية ، ثم إن لله عبادا راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة ، وذهبت عنهم وساوس النفس ، لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى ؛ فإذا عمل عملا علانية لم يحتج أن يجاهد ، لأن شهوة النفس قد بطلت ، ومنازعة النفس قد اضمحلت ، فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاما وفوق التمام ، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن ، وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=75أولئك يجزون الغرفة ) [الفرقان : 75] ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=74واجعلنا للمتقين إماما ) [الفرقان : 74] ومدح أمة
موسى عليه السلام فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=159ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [الأعراف : 159] ومدح أمة
محمد صلى الله عليه وسلم فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=110كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [آل عمران : 110] ثم أبهم المنكر فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=181وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [الأعراف : 181] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله .
فإن قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=271وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) .
والجواب من وجهين : الأول : لا نسلم أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=271فهو خير لكم ) يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الإخفاء خير من الخيرات ، وطاعة من جملة الطاعات ، فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيرا وطاعة ، لا أن المقصود منه بيان الترجيح .
والوجه الثاني : سلمنا أن المراد منه الترجيح ، لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء ، فالأفضل هو الإخفاء ، فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=23466الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : التَّطَوُّعُ ، أَوِ الْوَاجِبُ ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا .
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ ، قَالُوا : لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ ، وَالْإِظْهَارَ فِي الزَّكَاةِ أَفْضَلُ ، وَفِيهِ بَحْثَانِ :
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ : فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=26093الْأَفْضَلَ فِي إِعْطَاءِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِخْفَاؤُهُ أَوْ إِظْهَارُهُ . فَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا الْوُجُوهَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَهُ أَفْضَلُ :
فَالْأَوَّلُ : أَنَّهَا تَكُونُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=treesubj&link=19696_18692_30314_23515لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُسْمِعٍ وَلَا مُرَاءٍ وَلَا مَنَّانٍ " وَالْمُتَحَدِّثُ بِصَدَقَتِهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَطْلُبُ السُّمْعَةَ ، وَالْمُعْطِي فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ يَطْلُبُ الرِّيَاءَ ، وَالْإِخْفَاءُ وَالسُّكُوتُ هُوَ الْمُخَلِّصُ مِنْهُمَا ، وَقَدْ بَالَغَ قَوْمٌ فِي قَصْدِ الْإِخْفَاءِ ، وَاجْتَهَدُوا أَنْ لَا يَعْرِفَهُمُ الْآخِذُ ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي يَدِ أَعْمَى ، وَبَعْضُهُمْ يُلْقِيهِ فِي طَرِيقِ الْفَقِيرِ ، وَفِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ حَيْثُ يَرَاهُ وَلَا يَرَى الْمُعْطِيَ ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَشُدُّهُ فِي أَثْوَابِ الْفَقِيرِ وَهُوَ نَائِمٌ ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُوصِلُ إِلَى يَدِ الْفَقِيرِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ ، وَالْمَقْصُودُ عَنِ الْكُلِّ الِاحْتِرَازُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمِنَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا عَرَفَ الْمُعْطِيَ فَقَدْ حَصَلَ الرِّيَاءُ وَالْمِنَّةَ مَعًا ، وَلَيْسَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُتَوَسِّطِ الرِّيَاءُ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ إِذَا أَخْفَى صَدَقَتَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَيْنَ النَّاسِ شُهْرَةٌ وَمَدْحٌ وَتَعْظِيمٌ ، فَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَكْثَرَ ثَوَابًا .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012017nindex.php?page=treesubj&link=26093أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ إِلَى الْفَقِيرِ فِي سِرٍّ " وَقَالَ أَيْضًا : "
إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلًا فِي السِّرِّ يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ سِرًّا فَإِنْ أَظْهَرَهُ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَكُتِبَ فِي الْعَلَانِيَةِ ، فَإِنْ تَحَدَّثَ بِهِ نُقِلَ مِنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَكُتِبَ فِي الرِّيَاءِ " وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012019سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ : أَحَدُهُمْ رَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَلَمْ تَعْلَمْ شِمَالُهُ بِمَا أَعْطَاهُ يَمِينُهُ " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012020صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ " .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ الْإِظْهَارَ يُوجِبُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْآخِذِ مِنْ وُجُوهٍ ، وَالْإِخْفَاءَ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى ، وَبَيَانُ تِلْكَ الْمَضَارِّ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ هَتْكَ عِرْضِ الْفَقِيرِ وَإِظْهَارَ فَقْرِهِ ، وَرُبَّمَا لَا يَرْضَى الْفَقِيرُ بِذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْإِظْهَارِ إِخْرَاجَ الْفَقِيرِ مِنْ هَيْئَةِ التَّعَفُّفِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) [الْبَقَرَةِ : 273] .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ النَّاسَ رُبَّمَا أَنْكَرُوا عَلَى الْفَقِيرِ أَخْذَ تِلْكَ الصَّدَقَةِ ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا ، فَيَقَعُ الْفَقِيرُ فِي الْمَذَمَّةِ وَالنَّاسُ فِي الْغَيْبَةِ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْإِعْطَاءِ إِذْلَالًا لِلْآخِذِ وَإِهَانَةً لَهُ ، وَإِزْلَالُ الْمُؤْمِنِ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَالْخَامِسُ : أَنَّ الصَّدَقَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْهَدِيَّةِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012021مَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا " وَرُبَّمَا لَا يَدْفَعُ الْفَقِيرُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا إِلَى
[ ص: 65 ] شُرَكَائِهِ الْحَاضِرِينَ فَيَقَعُ الْفَقِيرُ بِسَبَبِ إِظْهَارِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْوَجْهُ فِي جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=26093_23510إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَهَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ فِي إِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ ، فَيَنْتَفِعُ الْفُقَرَاءُ بِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِظْهَارُ أَفْضَلَ , وَرَوَى
ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "
السِّرُّ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ , وَالْعَلَانِيَةُ أَفْضَلُ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ " قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13948مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْحِكِيمُ التَّرْمِذِيُّ : الْإِنْسَانُ إِذَا أَتَى بِعَمَلٍ وَهُوَ يُخْفِيهِ عَنِ الْخَلْقِ وَفِي نَفْسِهِ شَهْوَةٌ أَنْ يَرَى الْخَلْقُ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَدْفَعُ تِلْكَ الشَّهْوَةَ فَهَهُنَا الشَّيْطَانُ يُورِدُ عَلَيْهِ ذِكْرَ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ ، وَالْقَلْبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدْفَعُهُ ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ فِي مُحَارَبَةِ الشَّيْطَانِ فَضُوعِفَ الْعَمَلُ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَلَى الْعَلَانِيَةِ ، ثُمَّ إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا رَاضُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ هِدَايَتِهِ فَتَرَاكَمَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ ، وَذَهَبَتْ عَنْهُمْ وَسَاوِسُ النَّفْسِ ، لِأَنَّ الشَّهَوَاتِ قَدْ مَاتَتْ مِنْهُمْ وَوَقَعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي بِحَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا عَلَانِيَةً لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُجَاهِدَ ، لِأَنَّ شَهْوَةَ النَّفْسِ قَدْ بَطَلَتْ ، وَمُنَازَعَةَ النَّفْسِ قَدِ اضْمَحَلَّتْ ، فَإِذَا أَعْلَنَ بِهِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَذَا عَبْدٌ كَمُلَتْ ذَاتُهُ فَسَعَى فِي تَكْمِيلِ غَيْرِهِ لِيَكُونَ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ فِي تَنْزِيلِهِ وَسَمَّاهُمْ عِبَادَ الرَّحْمَنِ ، وَأَوْجَبَ لَهُمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=75أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ) [الْفُرْقَانِ : 75] ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي طَلَبُوهَا بِالدُّعَاءِ أَنْ قَالُوا (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=74وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) [الْفُرْقَانِ : 74] وَمَدَحَ أُمَّةَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=159وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) [الْأَعْرَافِ : 159] وَمَدَحَ أُمَّةَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=110كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) [آلِ عِمْرَانَ : 110] ثُمَّ أَبْهَمَ الْمُنْكَرَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=181وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) [الْأَعْرَافِ : 181] فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَأَعْلَامُ الدِّينِ وَسَادَةُ الْخَلْقِ بِهِمْ يَهْتَدُونَ فِي الذَّهَابِ إِلَى اللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ رَجَّحَ الْإِخْفَاءَ عَلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=271وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=271فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) يُفِيدُ التَّرْجِيحَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ إِعْطَاءَ الصَّدَقَةِ حَالَ الْإِخْفَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ ، وَطَاعَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا وَطَاعَةً ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ التَّرْجِيحِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّرْجِيحُ ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْحَالُ وَاحِدَةً فِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ ، فَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِخْفَاءُ ، فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْإِبْدَاءِ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَبْعُدْ تَرْجِيحُ الْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِخْفَاءِ .