(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) .
قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) .
[ ص: 183 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن
nindex.php?page=treesubj&link=28666_32428_32431أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بين الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان :
الطريق الأول : أن هذا إعراض عن المحاجة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وأيضا قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه ، فأولها أنه تعالى ذكر الحجة بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255الحي القيوم ) [ البقرة : 255 ] على فساد
nindex.php?page=treesubj&link=32430_29434قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=3نزل عليك الكتاب بالحق ) [ آل عمران : 3 ] على صحة النبوة ، وذكر شبه القوم ، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ، ثم ذكر لهم معجزة أخرى ، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم
بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13قد كان لكم آية في فئتين التقتا ) [ آل عمران : 13 ] ثم بين صحة القول بالتوحيد ، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [ آل عمران : 18 ] ثم بين تعالى أن ذهاب هؤلاء
اليهود والنصارى عن الحق ، واختلافهم في الدين ، إنما كان لأجل البغي والحسد ، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين ، فظهر أنه
nindex.php?page=treesubj&link=28671لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل ، فبعد هذا قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل ، وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد ، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين ، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم ، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام ، فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد ، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه .
الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20أسلمت وجهي لله ) محاجة ، وإظهار للدليل ، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع ، وكونه مستحقا للعبادة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الإثبات ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29434اليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ،
nindex.php?page=treesubj&link=29433والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طاعة الله تعالى وعبوديته ، وهذا القدر متفق عليه ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=64ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ) [ آل عمران : 64 ] .
والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال : ما ذكره
أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن
اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم
إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه ، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام ، فأمر الله تعالى
محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثم أوحينا إليك أن )
[ ص: 184 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ النحل : 123 ] ثم إنه تعالى أمر
محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول
إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] فقول
محمد صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20أسلمت وجهي ) كقول
إبراهيم عليه السلام (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79وجهت وجهي ) [ الأنعام : 79 ] أي أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة وأخلصت له ، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا
محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة
إبراهيم ، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات ، وداخلا تحت قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] .
والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع ، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فإن حاجوك ) يعني فإن نازعوك في قولك (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=19إن الدين عند الله الإسلام ) فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، وذلك لأن
nindex.php?page=treesubj&link=28631المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية ، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ، ولا أشرك به غيره ، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام ، وهذا الوجه يناسب الآية .
الوجه الرابع في كيفية الاستدلال : ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن
إبراهيم عليه السلام (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=42لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [ مريم : 22 ] يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا ضارا ، ويكون أمري في يديه ، وحكمي في قبضة قدرته ، فإن كان كل واحد يعلم أن
عيسى ما كان قادرا على هذه الأشياء ، امتنع في العقل أن أسلم له ، وأن أنقاد له ، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، والتدبير ، والتقدير .
الوجه الخامس : يحتمل أيضا أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة
إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=131إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [ البقرة : 131 ] وهذا مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
أما قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20أسلمت وجهي لله ) ففيه وجوه : الأول : قال
الفراء أسلمت وجهي لله ، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ، ولم يشاركه غيره . قال : ويعني بالوجه هاهنا العمل كقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52يريدون وجهه ) [ الأنعام : 52 ] أي عبادته ، ويقال : هذا وجه الأمر أي خالص الأمر ، وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول : وجهت وجهي إليك ، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه : مر على وجهه . الثاني : أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله ، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو
nindex.php?page=treesubj&link=29641_28632عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه . الثالث : أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله
nindex.php?page=treesubj&link=29641_28632وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته ، عادل عن كل ما سواه .
وأما قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20ومن اتبعن ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : حذف
عاصم وحمزة والكسائي الياء من " اتبعن " اجتزاء بالكسر واتباعا للمصحف ، وأثبته الآخرون على الأصل .
[ ص: 185 ] المسألة الثانية : " من " في محل الرفع عطفا على التاء في قوله ( أسلمت ) أي ومن اتبعني أسلم أيضا .
فإن قيل : لم قال أسلمت ومن اتبعن ، ولم يقل : أسلمت أنا ومن اتبعن.
قلنا : إن الكلام طال بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20وجهي لله ) فصار عوضا من تأكيد الضمير المتصل ، ولو قيل : أسلمت وزيد ، لم يحسن حتى يقال : أسلمت أنا وزيد ، ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ، ومن جاء معي جاز وحسن .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) .
[ ص: 183 ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28666_32428_32431أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ، وَأَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ ذَلِكَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ فِي مُحَاجَّتِهِمْ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) وَفِي كَيْفِيَّةِ إِيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ طَرِيقَانِ :
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذَا إِعْرَاضٌ عَنِ الْمُحَاجَّةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى صِدْقِهِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْمُعْجِزَاتِ بِالْقُرْآنِ ، وَدُعَاءِ الشَّجَرَةِ وَكَلَامِ الذِّئْبِ وَغَيْرِهَا ، وَأَيْضًا قَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ ، فَأَوَّلُهَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) [ الْبَقَرَةِ : 255 ] عَلَى فَسَادِ
nindex.php?page=treesubj&link=32430_29434قَوْلِ النَّصَارَى فِي إِلَهِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=3نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 3 ] عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ ، وَذَكَرَ شُبَهَ الْقَوْمِ ، وَأَجَابَ عَنْهَا بِأَسْرِهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مُعْجِزَةً أُخْرَى ، وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي شَاهَدُوهَا يَوْمَ
بَدْرٍ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ) [ آلِ عِمْرَانَ : 13 ] ثُمَّ بَيَّنَ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ ، وَنَفَى الضِّدَّ وَالنِّدَّ وَالصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 18 ] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَهَابَ هَؤُلَاءِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنِ الْحَقِّ ، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ ، إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ ، وَذَلِكَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَالتَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ لَوْ كَانُوا مُخْلِصِينَ ، فَظَهَرَ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28671لَمْ يَبْقَ مِنْ أَسْبَابِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى فِرَقِ الْكُفَّارِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ حَصَلَ ، فَبَعْدَ هَذَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) يَعْنِي إِنَّا بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ ، وَإِيضَاحِ الْبَيِّنَاتِ ، فَإِنْ تَرَكْتُمُ الْأَنَفَ وَالْحَسَدَ ، وَتَمَسَّكْتُمْ بِهَا كُنْتُمْ أَنْتُمُ الْمُهْتَدِينَ ، وَإِنْ أَعْرَضْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ وَرَاءِ مُجَازَاتِكُمْ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ طَرِيقٌ مُعْتَادٌ فِي الْكَلَامِ ، فَإِنَّ الْمُحِقَّ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْمُبْطِلِ اللَّجُوجِ ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، فَقَدْ يَقُولُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ : أَمَّا أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فَمُنْقَادُونَ لِلْحَقِّ مُسْتَسْلِمُونَ لَهُ مُقْبِلُونَ عَلَى عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ وَافَقْتُمْ وَاتَّبَعْتُمُ الْحَقَّ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فَقَدِ اهْتَدَيْتُمْ ، وَإِنْ أَعْرَضْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ ، فَهَذَا الطَّرِيقُ قَدْ يَذْكُرُهُ الْمُحْتَجُّ الْمُحِقُّ مَعَ الْمُبْطِلِ الْمُصِرِّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ .
الطَّرِيقُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ نَقُولَ : إِنَّ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ) مُحَاجَّةٌ ، وَإِظْهَارٌ لِلدَّلِيلِ ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ ، وَكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلْقَوْمِ : هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْكُلِّ فَأَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَدَاعٍ لِلْخَلْقِ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أُمُورٍ وَرَاءَ ذَلِكَ وَأَنْتُمُ الْمُدَّعُونَ فَعَلَيْكُمُ الْإِثْبَاتُ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29434الْيَهُودَ يَدَّعُونَ التَّشْبِيهَ وَالْجِسْمِيَّةَ ، وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ إِلَهِيَّةَ عِيسَى ،
nindex.php?page=treesubj&link=29433وَالْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ وُجُوبَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُدَّعُونَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَعَلَيْهِمْ إِثْبَاتُهَا ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدَّعِي إِلَّا وُجُوبَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُبُودِيَّتَهُ ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=64يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ) [ آلِ عِمْرَانَ : 64 ] .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ : مَا ذَكَرَهُ
أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ ، وَهُوَ أَنَّ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ كَانُوا مُقِرِّينَ بِتَعْظِيمِ
إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي قَوْلِهِ صَادِقًا فِي دِينِهِ ، إِلَّا فِي زِيَادَاتٍ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ )
[ ص: 184 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=123اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) [ النَّحْلِ : 123 ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَقُولَ كَقَوْلِ
إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) [ الْأَنْعَامِ : 79 ] فَقَوْلُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ ) كَقَوْلِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=79وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ) [ الْأَنْعَامِ : 79 ] أَيْ أَعْرَضْتُ عَنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَصَدْتُهُ بِالْعِبَادَةِ وَأَخْلَصْتُ لَهُ ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : فَإِنْ نَازَعُوكَ يَا
مُحَمَّدُ فِي هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَقُلْ : أَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِطَرِيقَةِ
إِبْرَاهِيمَ ، وَأَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ طَرِيقَتَهُ حَقَّةٌ ، بَعِيدَةٌ عَنْ كُلِّ شُبْهَةٍ وَتُهْمَةٍ ، فَكَانَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِالْإِلْزَامَاتِ ، وَدَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [ النَّحْلِ : 125 ] .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ مَا خَطَرَ بِبَالِي عِنْدَ كَتْبَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهُوَ أَنَّهُ ادَّعَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرَ ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20فَإِنْ حَاجُّوكَ ) يَعْنِي فَإِنْ نَازَعُوكَ فِي قَوْلِكَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=19إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) فَقُلِ : الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28631الْمَقْصُودَ مِنَ الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ الْوَفَاءُ بِلَوَازِمِ الرُّبُوبِيَّةِ ، فَإِذَا أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَلَا أَعْبُدُ غَيْرَهُ وَلَا أَتَوَقَّعُ الْخَيْرَ إِلَّا مِنْهُ وَلَا أَخَافُ إِلَّا مِنْ قَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ ، وَلَا أُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ ، كَانَ هَذَا هُوَ تَمَامُ الْوَفَاءِ بِلَوَازِمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ، فَصَحَّ أَنَّ الدِّينَ الْكَامِلَ هُوَ الْإِسْلَامُ ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ الْآيَةَ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ : مَا خَطَرَ بِبَالِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَاسِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=42لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ) [ مَرْيَمَ : 22 ] يَعْنِي لَا تَجُوزُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِمَنْ يَكُونُ نَافِعًا ضَارًّا ، وَيَكُونُ أَمْرِي فِي يَدَيْهِ ، وَحُكْمِي فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ أَنَّ
عِيسَى مَا كَانَ قَادِرًا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، امْتَنَعَ فِي الْعَقْلِ أَنْ أُسْلِمَ لَهُ ، وَأَنْ أَنْقَادَ لَهُ ، وَإِنَّمَا أُسْلِمُ وَجْهِيَ لِلَّذِي مِنْهُ الْخَيْرُ ، وَالشَّرُّ ، وَالنَّفْعُ ، وَالضُّرُّ ، وَالتَّدْبِيرُ ، وَالتَّقْدِيرُ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ إِشَارَةً إِلَى طَرِيقَةِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=131إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ الْبَقَرَةِ : 131 ] وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ .
أَمَّا قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ) فَفِيهِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ : قَالَ
الْفَرَّاءُ أَسَلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ، أَيْ أَخْلَصْتُ عَمَلِي لِلَّهِ يُقَالُ أَسَلَمْتُ الشَّيْءَ لِفُلَانٍ أَيْ أَخْلَصْتُهُ لَهُ ، وَلَمْ يُشَارِكْهُ غَيْرُهُ . قَالَ : وَيَعْنِي بِالْوَجْهِ هَاهُنَا الْعَمَلَ كَقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) [ الْأَنْعَامِ : 52 ] أَيْ عِبَادَتَهُ ، وَيُقَالُ : هَذَا وَجْهُ الْأَمْرِ أَيْ خَالِصُ الْأَمْرِ ، وَإِذَا قَصَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ لِحَاجَةٍ يَقُولُ : وَجَّهْتُ وَجْهِيَ إِلَيْكَ ، وَيُقَالُ لِلْمُنْهَمِكِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ عَنْهُ : مَرَّ عَلَى وَجْهِهِ . الثَّانِي : أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ أَسَلَمْتُ وَجْهَ عَمَلِي لِلَّهِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ مِنِّي مِنَ الْأَعْمَالِ فَالْوَجْهُ فِي الْإِتْيَانِ بِهَا هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=29641_28632عُبُودِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالِانْقِيَادُ لِإِلَهِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ . الثَّالِثُ : أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ أَسْلَمْتُ نَفَسِي لِلَّهِ
nindex.php?page=treesubj&link=29641_28632وَلَيْسَ فِي الْعِبَادَةِ مَقَامٌ أَعْلَى مِنْ إِسْلَامِ النَّفْسِ لِلَّهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عِبَادَتِهِ ، عَادِلٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : حَذَفَ
عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْيَاءَ مِنِ " اتَّبَعَنِ " اجْتِزَاءً بِالْكَسْرِ وَاتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ ، وَأَثْبَتَهُ الْآخَرُونَ عَلَى الْأَصْلِ .
[ ص: 185 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : " مَنْ " فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى التَّاءِ فِي قَوْلِهِ ( أَسْلَمْتُ ) أَيْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي أَسْلَمَ أَيْضًا .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ قَالَ أَسْلَمْتُ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ، وَلَمْ يَقُلْ : أَسْلَمْتُ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِ.
قُلْنَا : إِنَّ الْكَلَامَ طَالَ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=20وَجْهِيَ لِلَّهِ ) فَصَارَ عِوَضًا مِنْ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ ، وَلَوْ قِيلَ : أَسْلَمْتُ وَزَيْدٌ ، لَمْ يَحْسُنْ حَتَّى يُقَالَ : أَسْلَمْتُ أَنَا وَزَيْدٌ ، وَلَوْ قَالَ أَسْلَمْتُ الْيَوْمَ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ ، وَمَنْ جَاءَ مَعِي جَازَ وَحَسُنَ .