ثم قال تعالى : ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ) وفيه وجهان . الأول : ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضا لهم ، فالمقصود من هذا الكلام صفة الخيرية لأتباع . الثاني : أن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة ، فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به . ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين
واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف ، إحداهما : قوله : ( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) . وثانيتهما : قوله : ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) قال صاحب " الكشاف " : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء ( آمن ) غير عاطف .
أما قوله : ( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) ففيه سؤالان :
السؤال الأول : الألف واللام في قوله : ( المؤمنون ) للاستغراق أو للمعهود السابق ؟
والجواب : بل للمعهود السابق ، والمراد : ورهطه من عبد الله بن سلام اليهود ، ورهطه من والنجاشي النصارى .
السؤال الثاني : الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في ؟ وصف الكافر بأنه فاسق
والجواب : الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون مردودا عند الطوائف كلهم ، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره ، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقا فيما بينهم ، فكأنه قيل : أهل الكتاب فريقان : منهم من آمن ، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم ، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم البتة عند أحد من العقلاء .
أما قوله تعالى : ( لن يضروكم إلا أذى ) فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله : ( كنتم خير أمة ) رغبهم فيه من وجه آخر ، وهو أنهم لا قدرة لهم على الإضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين ، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم ، وكل ذلك تقرير لما تقدم من [ ص: 159 ] قوله : ( إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ) [ آل عمران : 100 ] فهذا وجه النظم ، فأما قوله : ( لن يضروكم إلا أذى ) فمعناه : أنه ، إما بالطعن في ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وإما بإظهار كلمة الكفر ، كقولهم : ( عزير ابن الله ) [ التوبة : 30 ] و ( المسيح ابن الله ) [ التوبة : 30 ] و ( الله ثالث ثلاثة ) [ المائدة : 73 ] وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع ، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ، ومن الناس من قال : إن قوله : ( إلا أذى ) استثناء منقطع وهو بعيد ، لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين ، والغم ضرر ، فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى لن يضروكم إلا ضررا يسيرا ، والأذى وقع موقع الضرر ، والأذى مصدر أذيت الشيء أذى .