المسألة الثالثة : في قولان . الأول : وعليه الجمهور : أن المراد منه الذين آمنوا المراد بأهل الكتاب بموسى وعيسى عليهما السلام ، روي أنه لما أسلم وأصحابه قال لهم بعض كبار عبد الله بن سلام اليهود : لقد كفرتم وخسرتم ، فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية ، وقيل : إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم من يكون موصوفا بالصفات الحميدة والخصال المرضية ، قال الثوري : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء ، وعن عطاء : أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام .
والقول الثاني : أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان ، وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم ، قال تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) [ فاطر : 32 ] ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود وقرأ هذه الآية ، قال أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : " أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم " القفال رحمه الله : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب ، فقيل : ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ، ولم يبعد أيضا أن يقال : المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب ، حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة ، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، يستويان ؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير تأكيدا لما تقدم من قوله : ( فضيلة أهل الإسلام كنتم خير أمة ) وهو كقوله : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) [ السجدة : 18 ] .
ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية :
الصفة الأولى : أنها قائمة وفيها أقوال . الأول : أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله : ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ) [ الفرقان : 64 ] وقوله : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) [ المزمل : 20 ] وقوله : ( قم الليل ) [ المزمل : 2 ] وقوله : ( وقوموا لله قانتين ) [ البقرة : 238 ] والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله : ( وهم يسجدون ) والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة .
والقول الثاني : في تفسير كونها قائمة : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله : ( إلا ما دمت عليه قائما ) [ آل عمران : 75 ] أي ملازما للاقتضاء ثابتا على المطالبة مستقصيا فيها ، ومنه قوله تعالى : ( قائما بالقسط ) [ آل عمران : 18 ] .
وأقول : إن هذه الآية دلت على ، وقوله : يدل على أن كون المسلم قائما بحق العبودية فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال : ( المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] وهذا قول ، واحتج عليه بما روي أن الحسن البصري قال : عمر بن الخطاب ابن الخطاب كما تهوكت اليهود ، قال الحسن : متحيرون مترددون " أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية " وفي رواية أخرى قال عند ذلك : " يا رسول [ ص: 165 ] الله إن أناسا من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه ، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال : أمتهوكون أنتم يا إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى ، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة وعشيا والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني " فهذا الخبر يدل على أن واجب وعدم التعلق بغيره واجب فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال : ( الثبات على هذا الدين من أهل الكتاب أمة قائمة ) .
القول الثالث : ( أمة قائمة ) أي مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام بمعنى استقام ، وهذا كالتقرير لقوله : ( كنتم خير أمة ) .