أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وليعلم الله الذين آمنوا ) ففيه مسائل .
المسألة الأولى : اللام في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وليعلم الله ) متعلق بفعل مضمر ، إما بعده أو قبله ، أما الإضمار بعده فعلى تقدير (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وليعلم الله الذين آمنوا ) فعلنا هذه المداولة ، وأما الإضمار قبله فعلى تقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور ، منها ليعلم الله الذين آمنوا ، ومنها ليتخذ منكم شهداء ، ومنها ليمحص الله الذين آمنوا ، ومنها ليمحق الكافرين ، فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة .
المسألة الثانية : الواو في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وليعلم الله الذين آمنوا ) نظائره كثيرة في القرآن ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وليكون من الموقنين ) [الأنعام : 75] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=113ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون ) [الأنعام : 113] والتقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله ، وإنما حذف المعطوف عليه للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى ، وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها ، فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم .
المسألة الثالثة : ظاهر قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وليعلم الله الذين آمنوا ) مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظير هذه الآية في الإشكال قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=142أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [آل عمران : 142] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=3ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [العنكبوت : 30] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=12لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ) [الكهف : 12] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=31ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143إلا لنعلم من يتبع الرسول ) [البقرة : 143] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) [هود : 7] وقد احتج
هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها .
أجاب المتكلمون عنه : بأن الدلائل العقلية دلت على
nindex.php?page=treesubj&link=28781_28782أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها ، فثبت أن التغيير في العلم محال إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا
[ ص: 15 ] علم فلان والمراد معلومه ، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره ، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم ، فالمراد تجدد المعلوم .
إذا عرفت هذا ، فنقول : في هذه الآية وجوه :
أحدها : ليظهر الإخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر .
والثاني : ليعلم أولياء الله ، فأضاف إلى نفسه تفخيما .
وثالثها : ليحكم بالامتياز ، فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز ؛ لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم .
ورابعها : ليعلم ذلك واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع ؛ لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد .
المسألة الرابعة : العلم قد يكون بحيث يكتفى فيه بمفعول واحد ، كما يقال : علمت زيدا ، أي علمت ذاته وعرفته ، وقد يفتقر إلى مفعولين ، كما يقال : علمت زيدا كريما ، والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني ، إلا أن المفعول الثاني محذوف ، والتقدير : وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالإيمان من غيرهم ، أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام ، ويحتمل أن يكون العلم هاهنا من القسم الأول ، بمعنى معرفة الذات ، والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم ، أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم ، وهو ظهور الصبر حذف هاهنا .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) فَفِيهِ مَسَائِلُ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ ، إِمَّا بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ ، أَمَّا الْإِضْمَارُ بَعْدَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) فَعَلْنَا هَذِهِ الْمُدَاوَلَةَ ، وَأَمَّا الْإِضْمَارُ قَبْلَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ : وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِأُمُورٍ ، مِنْهَا لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَمِنْهَا لِيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ، وَمِنْهَا لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَمِنْهَا لِيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ، فَكُلُّ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فِي تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) نَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=75وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) [الْأَنْعَامِ : 75] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=113وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) [الْأَنْعَامِ : 113] وَالتَّقْدِيرُ : وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ لَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ ، لِيُسَلِّيَهُمْ عَمَّا جَرَى ، وَلِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَأَنَّ شَأْنَهُمْ فِيهَا ، فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا لَوْ عَرَفُوهُ لَسَرَّهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ تِلْكَ الْمُدَاوَلَةَ لِيَكْتَسِبَ هَذَا الْعِلْمَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=142أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) [آلِ عِمْرَانَ : 142] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=3وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [الْعَنْكَبُوتِ : 30] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=12لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) [الْكَهْفِ : 12] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=31وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) [الْبَقَرَةِ : 143] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) [هُودٌ : 7] وَقَدِ احْتَجَّ
هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا ، فَقَالَ : كُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا صَارَ عَالِمًا بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ حُدُوثِهَا .
أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْهُ : بِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28781_28782أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّغْيِيرَ فِي الْعِلْمِ مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْعِلْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْدُورِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ ، يُقَالُ : هَذَا
[ ص: 15 ] عِلْمُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَعْلُومُهُ ، وَهَذِهِ قُدْرَةُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَقْدُورُهُ ، فَكُلُّ آيَةٍ يُشْعِرُ ظَاهِرُهَا بِتَجَدُّدِ الْعِلْمِ ، فَالْمُرَادُ تَجَدُّدُ الْمَعْلُومِ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَنَقُولُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : لِيَظْهَرَ الْإِخْلَاصُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ .
وَالثَّانِي : لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ تَفْخِيمًا .
وَثَالِثُهَا : لِيَحْكُمَ بِالِامْتِيَازِ ، فَوَضَعَ الْعِلْمَ مَكَانَ الْحُكْمِ بِالِامْتِيَازِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِامْتِيَازِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ .
وَرَابِعُهَا : لِيَعْلَمَ ذَلِكَ وَاقِعًا مِنْهُمْ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقَعُ ؛ لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ تَقَعُ عَلَى الْوَاقِعِ دُونَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْعِلْمُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُكْتَفَى فِيهِ بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ ، كَمَا يُقَالُ : عَلِمْتُ زَيْدًا ، أَيْ عَلِمْتُ ذَاتَهُ وَعَرَفْتُهُ ، وَقَدْ يَفْتَقِرُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ، كَمَا يُقَالُ : عَلِمْتُ زَيْدًا كَرِيمًا ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي ، إِلَّا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ ، وَالتَّقْدِيرُ : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ بِالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، أَيِ الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنْ يَصِيرَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ عَمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هَاهُنَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، بِمَعْنَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ ، وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ ، أَيْ لِيَعْرِفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنَّ سَبَبَ حُدُوثِ هَذَا الْعِلْمِ ، وَهُوَ ظُهُورُ الصَّبْرِ حُذِفَ هَاهُنَا .