( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين )
قوله تعالى : ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين )
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أن المنافقين أرجفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فالله تعالى يقول : إنه ، فكان قتله مثل موته في أنه لا [ ص: 20 ] يحصل إلا في الوقت المقدر المعين ، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه ، فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه ، والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضعفة المسلمين : إنه لما قتل لا تموت نفس إلا بإذن الله وقضائه وقدره محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان .
الثاني : أن يكون المراد ، وأن أحدا لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء ، فلا فائدة في الجبن والخوف . تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر
والثالث : أن يكون المراد ، فإن تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها ، ولكن لما كان الله تعالى حافظا وناصرا ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه . حفظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة
والرابع : ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر ، بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله . وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله
الخامس : أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون ، فإن الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فأخبر الله تعالى أن الموت والقتل كلاهما لا يكونان إلا بإذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب .
المسألة الثانية : اختلفوا في تفسير الإذن على أقوال :
الأول : أن يكون الإذن هو الأمر وهو قول أبي مسلم ، والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر .
الثاني : أن المراد من هذا الإذن ما هو المراد بقوله : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [النحل : 40] والمراد من هذا الأمر إنما هو التكوين والتخليق والإيجاد ؛ لأنه ، فإذن المراد : أن نفسا لن تموت إلا بما أماتها الله تعالى . لا يقدر على الموت والحياة أحد إلا الله تعالى
الثالث : أن يكون الإذن هو التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار ، وبه فسر قوله تعالى : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) [البقرة : 102] أي بتخليته فإنه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر ، فيكون المعنى : ، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به ، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي إلى الأجل الذي كتبه الله له ، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول محمدا قد قتل .
الرابع : أن يكون الإذن بمعنى العلم ، ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه ، وإذا جاء ذلك الوقت لزم الموت ، كما قال ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) [النحل : 61] .
الخامس : قال : الإذن هو قضاء الله وقدره ، فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وإرادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل ، كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله . ابن عباس
المسألة الثالثة : قال الأخفش والزجاج : اللام في ( وما كان لنفس ) معناها النفي ، والتقدير وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله .
المسألة الرابعة : دلت الآية على أن ، وأن تغيير الآجال ممتنع . المقتول ميت بأجله
وقوله تعالى : ( كتابا مؤجلا ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : ( كتابا مؤجلا ) منصوب بفعل دل عليه ما قبله فإن قوله : ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) قام مقام أن يقال : كتب الله ، فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله : ( كتاب الله عليكم ) [النساء : 24] [ ص: 21 ] لأن في قوله ( حرمت عليكم أمهاتكم ) [النساء : 23] دلالة على أنه كتب هذا التحريم عليكم ، ومثله : صنع الله ، ووعد الله ، وفطرة الله ، وصبغة الله .
المسألة الثانية : المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال ، ويقال : إنه هو اللوح المحفوظ ، كما ورد في الأحاديث " أنه تعالى قال للقلم اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " .
واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى ، ، فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا ، ولانقلب ذلك الكتاب كذبا ، وكل ذلك محال ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الكل بقضاء الله وقدره . وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق ، وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام " وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ آدم موسى " قال القاضي : أما الأجل والرزق فهما مضافان إلى الله ، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد ، فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب بعلمه من اختيار العبد ، وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح . فحج
واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الإشكال ، وذلك لأنا نقول : إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر ، فلو أتى بالإيمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين ؛ لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال ، وإذا كان موضع الإلزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك إلى الكلمات الأجنبية عن هذا الإلزام .
وأما قوله تعالى : ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) .
فاعلم أن كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة ، فالذين حضروا القتال للدنيا ، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء ، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا ، والذين حضروا للدين ، فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل إلى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك ، وتقريره قوله عليه السلام : " الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين ، منهم من يريد الدنيا ، ومنهم من يريد الآخرة " إلى آخر الحديث . إنما الأعمال بالنيات
واعلم أن هذه الآية وإن وردت في الجهاد خاصة ، لكنها عامة في جميع الأعمال ، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال ، فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه ، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام ، وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر . وروى عنه عليه السلام أبو هريرة أن الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله " في ماذا قتلت ؟ ، فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك " ثم إن الله تعالى يأمر به إلى النار .