ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156nindex.php?page=treesubj&link=29718_28974والله بما تعملون بصير ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين .
المسألة الثانية : قرأ
ابن كثير وحمزة والكسائي ( يعملون ) كناية عن الغائبين ، والتقدير (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ) والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156لا تكونوا كالذين كفروا ) ولما بعده في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ) .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157nindex.php?page=treesubj&link=28974_7862ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ) .
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين ، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للإنسان من أن يقتل أو يموت ، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه ، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الإنسان بها بعد الموت ألبتة ، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة ، وذلك لأن الإنسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة ، فإذا مات فكأنه تخلص عن العدو ووصل إلى المحبوب ، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا ، فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ، ولا شك في كمال سعادة الأول ، وكمال شقاوة الثاني .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=28920_28935_28938قرأ نافع وحمزة والكسائي ( متم ) بكسر الميم ، والباقون بضم الميم ، والأولون أخذوه من : مات يمات مت ، مثل هاب يهاب هبت ، وخاف يخاف خفت ، وروى المبرد هذه اللغة فإن صح فقد صحت هذه القراءة ، وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من ، مات يموت مت : مثل قال يقول قلت .
[ ص: 48 ] المسألة الثانية : قال
الواحدي رحمه الله : اللام في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157ولئن قتلتم ) لام القسم ، بتقدير والله لئن قتلتم في سبيل الله ، واللام في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157لمغفرة من الله ورحمة ) جواب القسم ، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء ، والأصوب عندي أن يقال : هذه اللام للتأكيد ، فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم ، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا ، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصول ، ثم بتقدير أن يكون لازما فإنه يستعقب لزوم المغفرة ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه ؟
المسألة الثالثة :
nindex.php?page=treesubj&link=28934قرأ حفص عن عاصم ( nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157يجمعون ) بالياء على سبيل الغيبة ، والباقون بالتاء على وجه الخطاب ، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني ، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم : مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا .
المسألة الرابعة : إنما قلنا : إن
nindex.php?page=treesubj&link=29693_29694رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه :
أحدها : أن من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال ، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده ، وقد قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [الزلزلة : 7] .
وثانيها : هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد ، فكم من إنسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا ، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46والباقيات الصالحات خير عند ربك ) [الكهف : 46] ولقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=96ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) [النحل : 96] .
وثالثها : بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد ، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما ، ومنافع الآخرة ليست كذلك .
ورابعها : بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال ، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار ، وذلك مما لا يخفى ، وأما منافع الآخرة فليست كذلك .
وخامسها : هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر ، بل تنقطع وتفنى ، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل ، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم ، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال .
وسادسها : أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية ، والحسية خسيسة ، والعقلية شريفة ، أترى أن انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند إشراقها بالأنوار الإلهية ، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لا نهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ) .
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون ، ولا خير فيما تجمعون أصلا .
قلنا : إن الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا ، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات ، فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=158ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) .
واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر إلى مغفرة الله ، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم هاهنا بالحشر إلى الله ، يروى أن
عيسى ابن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم آثار العبادة ، فقال ماذا تطلبون ؟ فقالوا : نخشى عذاب الله ، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم ، فقالوا : نطلب الجنة والرحمة ، فقال : هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ، ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر ،
[ ص: 49 ] فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون ، فانظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157لمغفرة من الله ) وهو إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه ، ثم قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157ورحمة ) وهو إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه ، ثم قال في خاتمة الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=158لإلى الله تحشرون ) وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية ، وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=29411أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=19ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) [الأنبياء : 19] وقال للمقربين من أهل الثواب : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=55عند مليك مقتدر ) [القمر : 55] فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه ، واستئناسهم بكرمه ، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته ، وهذا مقام فيه إطناب ، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه .
ولنرجع إلى التفسير : كأنه قيل إن تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة ، ثم تتركونها لا محالة ، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم ، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها ، وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله ، ووقوفكم على عتبة رحمة الله ، وتلذذكم بذكر الله ، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156nindex.php?page=treesubj&link=29718_28974وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَطَرِيقَةِ الْمُنَافِقِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ( يَعْمَلُونَ ) كِنَايَةً عَنِ الْغَائِبِينَ ، وَالتَّقْدِيرُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِيَكُونَ وَفْقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=156لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ) وَلِمَا بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157nindex.php?page=treesubj&link=28974_7862وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ شُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ وَلَا مَحِيصَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يَمُوتَ ، فَإِذَا وَقَعَ هَذَا الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي طَلَبِ رِضْوَانِهِ ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا الَّتِي لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْقُوَّةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْجِهَادِ أَعْرَضَ قَلَبُهُ عَنِ الدُّنْيَا وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ ، فَإِذَا مَاتَ فَكَأَنَّهُ تَخَلَّصَ عَنِ الْعَدُوِّ وَوَصَلَ إِلَى الْمَحْبُوبِ ، وَإِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ خَائِفًا مِنَ الْمَوْتِ حَرِيصًا عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا ، فَإِذَا مَاتَ فَكَأَنَّهُ حُجِبَ عَنِ الْمَعْشُوقِ وَأُلْقِي فِي دَارِ الْغُرْبَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي كَمَالِ سَعَادَةِ الْأَوَّلِ ، وَكَمَالِ شَقَاوَةِ الثَّانِي .
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=28920_28935_28938قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ( مِتُّمْ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَالْأَوَّلُونَ أَخَذُوهُ مِنْ : مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ ، مِثْلَ هَابَ يَهَابُ هِبْتُ ، وَخَافَ يَخَافُ خِفْتُ ، وَرَوَى الْمُبَرِّدُ هَذِهِ اللُّغَةَ فَإِنْ صَحَّ فَقَدْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ، مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ : مِثْلَ قَالَ يَقُولُ قُلْتُ .
[ ص: 48 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ
الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ) لَامُ الْقَسَمِ ، بِتَقْدِيرِ وَاللَّهِ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ ) جَوَابُ الْقَسَمِ ، وَدَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ دَاخِلٌ عَلَيْهِ جَزَاءٌ ، وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ : هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنْ وَجَبَ أَنْ تَمُوتُوا وَتُقْتَلُوا فِي سَفَرِكُمْ وَغَزْوِكُمْ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَفُوزُوا بِالْمَغْفِرَةِ أَيْضًا ، فَلِمَاذَا تَحْتَرِزُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ : إِنَّ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ غَيْرُ لَازِمِ الْحُصُولِ ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَإِنَّهُ يَسْتَعْقِبُ لُزُومَ الْمَغْفِرَةِ ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28934قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ( nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157يَجْمَعُونَ ) بِالْيَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْغَيْبَةِ ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ ، أَمَّا وَجْهُ الْغَيْبَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُهُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْحُطَامِ الْفَانِي ، وَأَمَّا وَجْهُ الْخِطَابِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ لَهُمْ : مَغْفِرَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجْمَعُونَهَا فِي الدُّنْيَا .
الْمَسْأَلَةَ الرَّابِعَةَ : إِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29693_29694رَحْمَةَ اللَّهِ وَمَغْفِرَتَهُ خَيْرٌ مِنْ نُعَيْمِ الدُّنْيَا لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ يَطْلُبُ الْمَالَ فَهُوَ فِي تَعَبٍ مِنْ ذَلِكَ الطَّلَبِ فِي الْحَالِ ، وَلَعَلَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَدًا لِأَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ الْغَدِ وَأَمَّا طَلَبُ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ ، وَقَدْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) [الزَّلْزَلَةِ : 7] .
وَثَانِيهَا : هَبْ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى الْغَدِ لَكِنْ لَعَلَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَا يَبْقَى إِلَى الْغَدِ ، فَكَمْ مِنَ إِنْسَانٍ أَصْبَحَ أَمِيرًا وَأَمْسَى أَسِيرًا ، وَخَيْرَاتُ الْآخِرَةِ لَا تَزُولُ لِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ) [الْكَهْفِ : 46] وَلِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=96مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ) [النَّحْلِ : 96] .
وَثَالِثُهَا : بِتَقْدِيرِ أَنْ يَبْقَى إِلَى الْغَدِ وَيَبْقَى الْمَالُ إِلَى الْغَدِ ، لَكِنْ لَعَلَّهُ يَحْدُثُ حَادِثٌ يَمْنَعُكَ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلَ مَرَضٍ وَأَلَمٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَمَنَافِعُ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .
وَرَابِعُهَا : بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ فِي الْغَدِ يُمْكِنُكَ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الْمَالِ ، وَلَكِنْ لَذَّاتُ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِالْآلَامِ وَمَنَافِعُهَا مَخْلُوطَةٌ بِالْمَضَارِّ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ .
وَخَامِسُهَا : هَبْ أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ تَحْصُلُ فِي الْغَدِ خَالِصَةً عَنِ الشَّوَائِبِ وَلَكِنَّهَا لَا تَدُومُ وَلَا تَسْتَمِرُّ ، بَلْ تَنْقَطِعُ وَتَفْنَى ، وَكُلَّمَا كَانَتِ اللَّذَّةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ ، كَانَ التَّأَسُّفُ وَالتَّحَسُّرُ عِنْدَ فَوَاتِهَا أَشَدَّ وَأَعْظَمَ ، وَمَنَافِعُ الْآخِرَةِ مَصُونَةٌ عَنِ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ .
وَسَادِسُهَا : أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا حِسِّيَّةٌ وَمَنَافِعَ الْآخِرَةِ عَقْلِيَّةٌ ، وَالْحِسِّيَّةُ خَسِيسَةٌ ، وَالْعَقْلِيَّةُ شَرِيفَةٌ ، أَتَرَى أَنَّ انْتِفَاعَ الْحِمَارِ بِلَذَّةِ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ يُسَاوِي ابْتِهَاجَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ إِشْرَاقِهَا بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ ، فَهَذِهِ الْمَعَاقِدُ السِّتَّةُ تُنَبِّهُكَ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تَكُونُ الْمَغْفِرَةُ مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا تَجْمَعُونَ أَصْلًا .
قُلْنَا : إِنَّ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحَلَالِ الَّذِي يُعَدُّ خَيْرًا ، وَأَيْضًا هَذَا وَارِدٌ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ خَيْرَاتٌ ، فَقِيلَ : الْمَغْفِرَةُ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَظُنُّونَهَا خَيْرَاتٍ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=158وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ) .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَغَّبَ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِالْحَشْرِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زَادَ فِي إِعْلَاءِ الدَّرَجَاتِ فَرَغَّبَهُمْ هَاهُنَا بِالْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ ، يُرْوَى أَنَّ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مَرَّ بِأَقْوَامٍ نَحِفَتْ أَبْدَانُهُمْ وَاصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ ، وَرَأَى عَلَيْهِمْ آثَارَ الْعِبَادَةِ ، فَقَالَ مَاذَا تَطْلُبُونَ ؟ فَقَالُوا : نَخْشَى عَذَابَ اللَّهِ ، فَقَالَ : هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ لَا يُخَلِّصَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ ، ثُمَّ مَرَّ بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ فَرَأَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْآثَارَ فَسَأَلَهُمْ ، فَقَالُوا : نَطْلُبُ الْجَنَّةَ وَالرَّحْمَةَ ، فَقَالَ : هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَمْنَحَكُمْ رَحْمَتَهُ ، ثُمَّ مَرَّ بِقَوْمٍ ثَالِثٍ وَرَأَى آثَارَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ ،
[ ص: 49 ] فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا : نَعْبُدُهُ لِأَنَّهُ إِلَهُنَا ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ لَا لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ ، فَقَالَ : أَنْتُمُ الْعَبِيدُ الْمُخْلِصُونَ وَالْمُتَعَبِّدُونَ الْمُحِقُّونَ ، فَانْظُرْ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُهُ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=157وَرَحْمَةٌ ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُهُ لِطَلَبِ ثَوَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ فِي خَاتِمَةِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=158لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِمُجَرَّدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ، وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29411أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَبْعَدُ النِّهَايَاتِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا شَرَّفَ الْمَلَائِكَةَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=19وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ) [الْأَنْبِيَاءِ : 19] وَقَالَ لِلْمُقَرَّبِينَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=55عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) [الْقَمَرِ : 55] فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ فِي طَاعَتِهِ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِ يَكُونُ حَشْرُهُمْ إِلَيْهِ ، وَاسْتِئْنَاسُهُمْ بِكَرَمِهِ ، وَتَمَتُّعُهُمْ بِشُرُوقِ نُورِ رُبُوبِيَّتِهِ ، وَهَذَا مَقَامٌ فِيهِ إِطْنَابٌ ، وَالْمُسْتَبْصِرُ يُرْشِدُهُ الْقَدْرُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ .
وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ : كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ وَاحْتَرَزْتُمْ عَنِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ بَقِيتُمْ أَيَّامًا قَلِيلَةً فِي الدُّنْيَا مَعَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ الْخَسِيسَةِ ، ثُمَّ تَتْرُكُونَهَا لَا مَحَالَةَ ، فَتَكُونُ لَذَّاتُهَا لِغَيْرِكُمْ وَتَبِعَاتُهَا عَلَيْكُمْ ، أَمَّا لَوْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا ، وَبَذَلْتُمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ لِلْمَوْلَى يَكُونُ حَشْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ ، وَوُقُوفُكُمْ عَلَى عَتَبَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَتَلَذُّذُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ وَالْمَنْزِلَتَيْنِ .