قوله تعالى : ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في المنادي قولان :
أحدهما : أنه محمد عليه الصلاة والسلام ، وهو قول الأكثرين ، [ ص: 118 ] والدليل عليه قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك ) [ النحل : 125 ] . ( وداعيا إلى الله بإذنه ) [ الأحزاب : 46 ] . ( أدعو إلى الله ) [ يوسف : 108 ] .
والثاني : أنه هو القرآن ، قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الإنس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ) [ الجن : 1 ، 2 ] قالوا : والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه ، قالوا : وهذا وإن كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف ، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد ، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك ، فصار كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل ، كما قيل في جهنم ( تدعوا من أدبر وتولى ) [ المعارج : 17 ] إذ كان مصيرهم إليها ، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان ، قال الشاعر :
يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع
المسألة الثانية : في قوله : ( ينادي للإيمان ) وجوه :
الأول : أن اللام بمعنى " إلى " كقوله : ( ثم يعودون لما نهوا عنه ) [ المجادلة : 8 ] . ( ثم يعودون لما قالوا ) [ المجادلة : 3 ] . ( بأن ربك أوحى لها ) [ الزلزلة : 5 ] ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) [ الأعراف : 43 ] ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له وإليه ، وهداه للطريق وإليه ، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى : أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا .
الثاني : قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي بأن آمنوا ، كما يقال : جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا .
والثالث : أن هذه اللام لام الأجل ، والمعنى : سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس ، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض ، ألا تراه قال : ( أن آمنوا بربكم ) أي لتؤمن الناس ، وهو كقوله : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) [ النساء : 64 ] .
المسألة الثالثة : قوله : ( سمعنا مناديا ينادي ) نظيره قولك : سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم ، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع ، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره ، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه ، وأنه يقال سمعت كلام فلان أو قوله .
المسألة الرابعة : ههنا سؤال وهو أن يقال : ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي ؟
وجوابه : ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي ، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ، ونظيره قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام ، وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو الكفاية لبعض النوازل ، وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، فإذا قلت ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته .
المسألة الخامسة : قوله ( أن آمنوا ) فيه حذف أو إضمار ، والتقدير : آمنوا أو بأن آمنوا . ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك : ( فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء : أولها : غفران [ ص: 119 ] الذنوب .
وثانيها : تكفير السيئات .
وثالثها : أن تكون وفاتهم مع الأبرار . أما الغفران فهو الستر والتغطية ، والتكفير أيضا هو التغطية ، يقال : رجل مكفر بالسلاح ، أي مغطى به ، والكفر منه أيضا ، وقال لبيد :
في ليلة كفر النجوم ظلامها
إذا عرفت هذا : . فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد
أما المفسرون فذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب .
وثانيها : المراد بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنف .
وثالثها : أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة ، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة .
ورابعها : أن يكون المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنبا ، وبالثاني ما أتى به الإنسان مع جهله بكونه معصية وذنبا .