المسألة السادسة : قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن يبقون مخلدين في النار . وذلك لأن قوله : ( فساق أهل الصلاة ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ) إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي [ ص: 185 ] سبق ذكرها وهي حدود المواريث ، أو يدخل فيها ذلك وغيره ، وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد ، وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة ، فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد ، وعلى أن الوعيد مخلد ، ولا يقال : هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله ، وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر ، فإنه هو الذي تعدى جميع حدود الله ، فإنا نقول : هذا مدفوع من وجهين :
الأول : أنا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة ؛ لأن الله تعالى نهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية ، فتعدي جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي ، وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا ، وذلك محال ، فثبت أن تعدي جميع حدود الله محال ، فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة ، فعلمنا أن المراد منه أي حد كان من حدود الله .
الثاني : هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث ، فيكون المراد من قوله : ( ويتعد حدوده ) تعدي حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات . وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال .
هذا منتهى تقرير المعتزلة ، وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة . ولا بأس بأن نعيد طرفا منها في هذا الموضع فنقول :
أجمعنا على أن هذا ؛ لأن الدليل دل على أنه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد ، فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو ، فإن بتقدير قيام الدلالة على حصول العفو امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو ، ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو ، ثم نقول : هذا العموم مخصوص بالكافر ، ويدل عليه وجهان : الوعيد مختص بعدم التوبة
الأول : أنا إذا قلنا لكم : ما الدليل على أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم ؟ قلتم : الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه ، فنقول : إن صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله : ( ومن يعص الله ورسوله ) مختص بالكافر : لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال : ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر ، وإلا في الفسق ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فهذا يقتضي أن قوله : ( ومن يعص الله ) في جميع أنواع المعاصي والقبائح ، وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر ، وقوله : الإتيان بجميع المعاصي محال ؛ لأن الإتيان باليهودية والنصرانية معا محال ، فنقول : ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي ، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوى ما ذكرناه .
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر : أن قوله : ( ومن يعص الله ورسوله ) يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب ، وقوله : ( ويتعد حدوده ) لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار ، وهو خلاف الأصل ، فوجب حمله على الكفر ، وقوله : بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث .
قلنا : هب أنه كذلك إلا أنه يسقط ما ذكرناه من السؤال بهذا الكلام ؛ لأن التعدي في حدود المواريث تارة يكون بأن يعتقد أن تلك التكاليف والأحكام حق وواجبة القبول إلا أنه يتركها ، وتارة يكون بأن يعتقد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب ، فيكون هذا هو الغاية في تعدي الحدود ، وأما الأول فلا يكاد يطلق في حقه أنه تعدى حدود الله ، وإلا لزم وقوع التكرار كما ذكرناه ، فعلمنا أن هذا الوعيد مختص بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث ، فهذا ما يختص بهذه الآية من المباحث ، وأما بقية الأسئلة فقد تقدم ذكرها في سورة البقرة . والله أعلم .