ثم قال تعالى : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في انتصاب قوله : ( أجرا ) وجهان :
الأول : انتصب بقوله : ( وفضل ) ؛ لأنه في معنى قولهم : آجرهم أجرا ، ثم قوله : ( درجات منه ومغفرة ورحمة ) بدل من قوله : ( أجرا ) .
الثاني : انتصب على التمييز و ( درجات ) عطف بيان ( ومغفرة ورحمة ) معطوفان على " درجات " .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : إنه تعالى ذكر أولا درجة ، وههنا درجات ، وجوابه من وجوه :
الأول : المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد ، بل بالجنس ، والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع ، وذلك هو الأجر العظيم ، والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة .
الثاني : أن ، وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله : ( المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة ، ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات غير أولي الضرر ) لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء .
[ ص: 9 ] الثالث : فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة ، وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل والرحمة والمغفرة .
الرابع : قال في أول الآية : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط ، وإلا حصل التكرار ، فوجب أن يكون المراد منه : من كان مجاهدا على الإطلاق في كل الأمور ، أعني في عمل الظاهر ، وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو ، كما قال عليه السلام : " أشرف أنواع المجاهدة رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " . وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله ، إلى الاستغراق في طاعة الله ، ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة ، وفضيلة هذا الثاني درجات .
المسألة الثالثة : قالت الشيعة : دلت هذه الآية على - عليه السلام - أفضل من علي بن أبي طالب أبي بكر ؛ وذلك لأن أن عليا كان أكثر جهادا ، فالقدر الذي فيه حصول التفاوت كان أبو بكر من القاعدين فيه ، وعلي من القائمين ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون علي أفضل منه لقوله تعالى : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) . فيقال لهم : إن مباشرة علي -عليه السلام- لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك ، فيلزمكم بحكم هذه الآية أن يكون علي أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يقوله عاقل .
فإن قلتم : إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبينات وإزالة الشبهات والضلالات ، وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد ، فنقول : فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر ، وذلك أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس ، حتى أسلم على يده ، عثمان بن عفان وطلحة ، والزبير ، ، وسعد بن أبي وقاص ، وكان يبالغ في ترغيب الناس في الإيمان وفي الذب عن وعثمان بن مظعون محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه وبماله ، وعلي في ذلك الوقت كان صبيا ما كان أحد يسلم بقوله ، وما كان قادرا على الذب عن محمد عليه الصلاة والسلام ، فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي من وجهين :
أحدهما : أن جهاد أبي بكر كان في أول الأمر حين كان الإسلام في غاية الضعف ، وأما جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات ، وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا .
والثاني : أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين ، وأكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده ، وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة والسلام ، وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل ، ولا شك أن الأول أفضل .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : دلت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل ؛ لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل ، وأيضا لو لم يكن العمل موجبا للثواب لكان الثواب هبة لا أجرا ، لكنه تعالى سماه أجرا ، فبطل القول بذلك ، فيقال لهم : لم لا يجوز أن يقال : العمل علة الثواب لكن لا لذاته ، بل يجعل الشارع ذلك العمل موجبا له .
المسألة الخامسة : قالت الشافعية : دلت الآية على أن ، لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله : ( الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح وكلا وعد الله الحسنى ) ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعودا من عند الله بالحسنى .
إذا ثبت هذا فنقول : إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين ، فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة ، ثم إن قوله : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) يتناول جميع المجاهدين [ ص: 10 ] سواء كان جهاده واجبا أو مندوبا ، والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد ، فثبت أن الاشتغال بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح ، والله أعلم .