المسألة الخامسة : لما خلق الله العالم مطابقا لمصالح العباد موافقا لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل ، وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالما ، فثبت بما ذكرنا أن قوله : الحمد لله ) يدل على وجود الإله ، ويدل على كونه منزها عن الحيز والمكان ، ويدل على كونه منزها عن الحلول في المحل ، ويدل على كونه في نهاية القدرة ، ويدل على كونه في نهاية العلم ، ويدل على كونه في نهاية الحكمة . (
وأما السؤال الثاني وهو قوله : هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر ، فلم قلتم : إنه يستحق الحمد والثناء ؟ والجواب هو قوله : ( الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين : إما أن يكون في السلامة والسعادة ، وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره ، فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده ، فكان رحمانا رحيما ، وإن كان في المكاره والآفات ، فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد أو من الله ، فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين في يوم الدين ، وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بد وأن يكون مستحقا للحمد الذي لا نهاية له والثناء الذي لا غاية له ، فظهر [ ص: 152 ] بالبيان الذي ذكرناه أن قوله : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) مرتب ترتيبا لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه .
واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية ، واعلم أن الإنسان مركب من جسد ومن روح ، والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح ، فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتيا بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية ، وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتيا بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته ، وتلك الأعمال هي العبادة ، ، وهذه أول درجات سعادة الإنسان ، وهو المراد بقوله : ( فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظبا على العبادات إياك نعبد ) فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب ، وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادة والطاعات ، بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات ، وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات ، وهو المراد من قوله : ( وإياك نستعين ) ثم إذا تجاوز عن هذا المقام ، لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله ، وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله ، وهو المراد من قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) وفيه لطائف :
اللطيفة الأولى : أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم .