[ ص: 154 ] ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء :
أولها : مقام الشريعة ، وهو أن ، وهو قوله : ( يواظب على الأعمال الظاهرة إياك نعبد ) .
وثانيها : مقام الطريقة ، وهو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب ، فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد يصل إليه من عالم الغيب ، وهو قوله : ( وإياك نستعين ) .
وثالثها : أنه يشاهد عالم الشهادة معزولا بالكلية ، ويكون الأمر كله لله ، وحينئذ يقول : اهدنا الصراط المستقيم .
ثم إن هاهنا دقيقة ، وهي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد ، فحينئذ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود ، فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية والأنوار الربانية ، حتى إذا اتصل بها وانخرط في سلكها صار الطلب أقوى والاستعداد أتم ، فحينئذ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة ؛ فلهذا قال : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) .
ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة والاستعداد ؛ بين أيضا أن الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان ؛ فلهذا قال : ( غير المغضوب عليهم ) وهم الفساق : ( ولا الضالين ) وهم الكفار .
ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة ، أعني الشريعة المدلول عليها بقوله : ( إياك نعبد ) ، والطريقة المدلول عليها بقوله : ( وإياك نستعين ) ، والحقيقة المدلول عليها بقوله : اهدنا الصراط المستقيم - ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء ، فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية .
المسألة الثالثة : في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة : اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى جر الخيرات واللذات ، ودفع المكروهات والمخافات ، ثم إن ، فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة ، ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة ، ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوبا بالذات ، وكان استقراء أحوال هذا العلم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة ، ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب - صار هذا المعنى سببا لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة ، وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار ، بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء ، شديد الحب لها ، عظيم الميل والرغبة إليها ، ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضا أن حب التشبه غالب على طباع الخلق . أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية ، وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ ، وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعه إلى الفسق ، وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة ، وإذا عرفت هذا فنقول : إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار ، وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل [ ص: 155 ] والطلب في قلبه أقوى وأثبت ، وأيضا فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة ، مواظبون على هذه الحالة . هذا العالم عالم الأسباب
وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة ، وذلك أيضا يوجب استحكام هذه الحالة . فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن والمرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جدا ثم نقول : إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملا شافيا وافيا ، فيقول : هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا ؟ الأول باطل ؛ لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزا ، وأقلهم عقلا ، فعند هذا يظهر له أن تلك الإمارة والرياسة ما حصلت له بقوته ، وما هيئت له بسبب حكمته ، وإنما حصلت تلك الإمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام ، لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه ، ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها ، فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة ، وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب ، ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات ، صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير قال : هو النافع ، وكلما وصل إليه شر ومكروه قال : هو الضار ، وعند هذا لا يحمد أحدا على فعل إلا الله ، ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى الله ، فيصير الحمد كله لله ، والثناء كله لله ، فعند هذا يقول العبد : الحمد لله . الأسباب الموجبة لحب الدنيا
واعلم أن الاستقراء المذكور يدل العبد على أن ، ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير ، فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير الله ، وذلك هو قوله : ( أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير الله رب العالمين ) ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن ، والترتيب الأقوم ، والكمال الأعلى ، والمنهج الأسنى ، فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه ، فعند ذلك يقول : ( الرحمن الرحيم ) فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحه في الدنيا إنما تهيأت برحمة الله وفضله وإحسانه ، ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت ، فكأنه يقال : مالك يوم الدين ليس إلا الذي عرفته بأنه الرحمن الرحيم ، فحينئذ ينشرح صدر العبد ، وينفسح قلبه ، ويعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا الله ، وحينئذ ينقطع التفاته عما سوى الله ، ولا يبقى متعلق القلب بغير الله ، ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولا بخدمتهما ، وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما ، وكان يطلب الخير منهما ، فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلا بخدمة الأمير والوزير ؛ فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى ، فعند هذا يقول : إياك نعبد ، والمعنى : إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك ، وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك ، ولما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير ، فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى ، فيقول : اهدنا الصراط المستقيم ، ثم إن أهل الدنيا فريقان : أحدهما : ، ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من الله ، والفرقة الثانية : الذين يخدمون الخلق ، ويستعينون بهم ، ويطلبون الخير منهم ، فلا جرم العبد يقول : إلهي اجعلني في زمرة الفرقة [ ص: 156 ] الأولى ، وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية ، ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية ، وهم المغضوب عليهم والضالون ، فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك ، كما قال الذين لا يعبدون أحدا إلا الله ، ولا يستعينون إلا بالله إبراهيم عليه السلام : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) ؟ والله أعلم .