[ ص: 62 ] ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) .
قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) .
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما أمر بالإيمان ، ورغب فيه بين ، فذكر هذه الآية . فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان
واعلم أن فيها أقوالا كثيرة :
الأول : أن المراد منه الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات ، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم ، إذ لو كان للإيمان وقع ورتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب ، ومن لا يكون للإيمان في قلبه وقع فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيمانا صحيحا معتبرا ؛ فهذا هو المراد بقوله : ( لم يكن الله ليغفر لهم ) ، وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا ، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه ، وكذلك نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ، ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات ، والغالب أنه يموت على الفسق ، فكذا ههنا .
الثاني : قال بعضهم : اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى ، ثم كفروا بعزير ، ثم آمنوا بداود ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد عليه الصلاة والسلام .
الثالث : قال آخرون : المراد المنافقون ، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام ، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم ، وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم ، والإيمان الثاني : هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا : إنا مؤمنون ، والكفر الثاني : هو أنهم إذا دخلوا على شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزءون ، وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين ، وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا قال تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) [البقرة : 221] . قال القفال -رحمة الله عليه- : وليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم كما قال : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) [النساء : 143] . قال : والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) .
الرابع : قال قوم : المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين ، فكانوا يظهرون الإيمان تارة ، والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا : ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) [آل عمران : 72] ، وقوله : ( ثم ازدادوا كفرا ) معناه : أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام .
المسألة الثانية : دلت الآية على أنه قد يحصل وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة ، وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام ، وهم يجيبون عن ذلك : بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان . الكفر بعد الإيمان
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن ، فوجب أن يكون الإيمان أيضا كذلك ؛ لأنهما ضدان متنافيان ، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر ، وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوها : الكفر يقبل الزيادة والنقصان
[ ص: 63 ] الأول : أنهم ماتوا على كفرهم .
الثاني : أنهم ازدادوا كفرا بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم ، وعلى هذا التقدير لما كانت إصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر ، فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان .
الثالث : أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم : ( إنما نحن مستهزئون ) [البقرة : 14] ؛ وذلك يدل على أن الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه .