قوله تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : ( وكذلك ) منسوق على شيء ، وفي تعيين ذلك الشيء قولان :
الأول : أنه منسوق على قوله : ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) أي كما فعلنا ذلك ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ) .
الثاني : معناه : جعلنا لك عدوا كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء فيكون قوله : ( كذلك ) عطفا على معنى ما تقدم من الكلام ؛ لأن ما تقدم يدل على أنه تعالى جعل له أعداء .
المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ) أنه تعالى هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا شك أن تلك العداوة معصية وكفر . فهذا يقتضي أن هو الله تعالى . خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر
أجاب الجبائي عنه : بأن المراد بهذا الجعل الحكم والبيان ، فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل : إنه كفره ، وإذا أخبر عن عدالته ، قيل : إنه عدله ، فكذا هاهنا أنه تعالى لما بين للرسول عليه الصلاة والسلام كونهم أعداء له لا جرم قال : إنه جعلهم أعداء له ، وأجاب أبو بكر الأصم عنه : بأنه تعالى لما أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى العالمين وخصه بتلك المعجزة حسدوه ، وصار ذلك الحسد سببا للعداوة القوية ، فلهذا التأويل قال : إنه تعالى جعلهم أعداء له ، ونظيره قول : المتنبي
فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
وأجاب الكعبي عنه : بأنه تعالى أمر الأنبياء بعدواتهم وأعلمهم كونهم أعداء لهم ، وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء ؛ لأن العداوة لا تحصل إلا من الجانبين ، فلهذا الوجه جاز أن يقال : إنه تعالى جعلهم أعداء للأنبياء عليهم السلام .
واعلم أن هذه الأجوبة ضعيفة جدا لما بينا أن الأفعال مستندة إلى الدواعي ، وهي حادثة من قبل الله تعالى ، ومتى كان الأمر كذلك ، فقد صح مذهبنا .
ثم هاهنا بحث آخر : وهو أن العداوة والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان ، فإن الرجل قد يبلغ [ ص: 126 ] في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه ، بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة ، ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه ، ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكنا من قلب العداوة بالصداقة وبالضد ، وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع ؟ قال : المتنبي
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه ، ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته .
المسألة الثالثة : النصب في قوله : ( شياطين ) فيه وجهان :
الأول : أنه منصوب على البدل من قوله : ( عدوا ) .
والثاني : أن يكون قوله : ( عدوا ) منصوبا على أنه مفعول ثان ، والتقدير : وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء الأنبياء .
المسألة الرابعة : اختلفوا في على قولين : معنى شياطين الإنس والجن
الأول : أن المعنى مردة الإنس والجن ، والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن ، وهذا قول في رواية ابن عباس عطاء ومجاهد والحسن وقتادة ، وهؤلاء قالوا : إن من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس ، وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه ، والدليل عليه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي ذر : . هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس ؟ قال قلت : وهل للإنس من شياطين ؟ قال : نعم ؛ هم شر من شياطين الجن
والقول الثاني : أن الجميع من ولد إبليس إلا أنه جعل ولده قسمين ، فأرسل أحد القسمين إلى وسوسة الإنس ، والقسم الثاني إلى وسوسة الجن ، فالفريقان شياطين الإنس والجن ، ومن الناس من قال : القول الأول أولى ؛ لأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء ، وهم الشياطين ، ومنهم من يقول : القول الثاني أولى ؛ لأن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن . والإضافة تقتضي المغايرة ، وعلى هذا التقدير : فالشياطين نوع مغاير للجن وهم أولاد إبليس .
المسألة الخامسة : قال الزجاج : قوله : ( عدوا ) بمعنى أعداء ، وأنشد وابن الأنباري : ابن الأنباري
إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لن يضرهمو بغضي
أراد أعدائي ، فأدى الواحد عن الجمع ، وله نظائر في القرآن ، ومنها :
قوله : ( ضيف إبراهيم المكرمين ) [ الذاريات : 24 ] جعل المكرمين وهو جمع نعتا للضيف وهو واحد .
وثانيها : قوله : ( والنخل باسقات لها طلع ) [ ق : 10 ] .
وثالثها : قوله : ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) [ النور : 31 ] .
ورابعها : قوله : ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) [ العصر : 2 ، 3 ] .
وخامسها : قوله : ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ) [ آل عمران : 93 ] أكد المفرد بما يؤكد الجمع به ، ولقائل أن يقول : لا حاجة إلى هذا التكلف ، فإن التقدير : وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوا واحدا ، إذ لا يجب لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد .