( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ) .
قوله تعالى : ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ) .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الصغو في اللغة معناه : الميل . يقال في المستمع إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت أنه يصغي ، ويقال : أصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في البعض ، ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى . فقوله : ( ولتصغى ) أي ولتميل .
المسألة الثانية : " اللام " في قوله : " ولتصغى " لا بد له من متعلق . فقال أصحابنا : التقدير : وكذلك ، ومن صفته أنه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، وإنما فعلنا ذلك لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون أي وإنما أوجدنا العداوة ، في قلب الشياطين الذين من صفتهم ما ذكرناه ليكون كلامهم المزخرف مقبولا عند هؤلاء الكفار ، قالوا : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه يظهر أنه تعالى يريد الكفر من الكافر أما جعلنا لكل نبي عدوا من شياطين الجن والإنس المعتزلة ، فقد أجابوا عنه من ثلاثة أوجه .
الوجه الأول : وهو الذي ذكره الجبائي قال : إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر ، كقوله تعالى : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب ) [ الإسراء : 64 ] وكذلك قوله : ( وليرضوه وليقترفوا ) وتقدير الكلام كأنه قال للرسول : ( فذرهم وما يفترون ) [ الأنعام : 137 ] ثم قال لهم على سبيل التهديد ولتصغى إليه أفئدتهم وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون .
والوجه الثاني : وهو الذي اختاره الكعبي أن هذه اللام لام العاقبة أي ستؤول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحوال .
قال القاضي : ويبعد أن يقال : هذه العاقبة تحصل في الآخرة ؛ لأن الإلجاء حاصل في الآخرة ، فلا يجوز أن تميل قلوب الكفار إلى قبول المذهب الباطل ، ولا أن يرضوه ولا أن يقترفوا الذنب ، بل يجب أن تحمل على أن عاقبة أمرهم تؤول إلى أن يقبلوا الأباطيل ، ويرضوا بها ويعملوا بها .
[ ص: 129 ] والوجه الثالث : وهو الذي اختاره أبو مسلم ، قال : " اللام " في قوله : ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) متعلق بقوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) والتقدير أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ) الذنوب ، ويكون المراد أن مقصود الشياطين من ذلك الإيحاء هو مجموع هذه المعاني . فهذا جملة ما ذكروه في هذا الباب .
أما الوجه الأول : وهو الذي عول عليه الجبائي فضعيف من وجوه ذكرها القاضي :
فأحدها : أن " الواو " في قوله : ( ولتصغى ) تقتضي تعلقه بما قبله ، فحمله على الابتداء بعيد .
وثانيها : أن " اللام " في قوله : ( ولتصغى ) لام كي فيبعد أن يقال : إنها لام الأمر ، ويقرب ذلك من أن يكون تحريفا لكلام الله تعالى ، وأنه لا يجوز .
وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال : هذه اللام لام العاقبة فهو ضعيف؛ لأنهم أجمعوا على أن هذا مجاز وحمله على " كي " حقيقة فكان قولنا أولى .
وأما الوجه الثالث : وهو الذي ذكره أبو مسلم ، فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب ؛ لأنا نقول : إن قوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) يقتضي أن يكون الغرض من ذلك الإيحاء هو التغرير . وإذا عطفنا عليه قوله : ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون ) فهذا أيضا عين التغرير لا معنى التغرير ، إلا أنه يستميله إلى ما يكون باطنه قبيحا ، وظاهره حسنا . وقوله : ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون ) عين هذه الاستمالة ، فلو عطفنا لزم أن يكون المعطوف عين المعطوف عليه ، وإنه لا يجوز ، أما إذا قلنا : تقدير الكلام وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من شأنه أن يوحي زخرف القول لأجل التغرير ، وإنما جعلنا مثل هذا الشخص عدوا للنبي لتصغى إليه أفئدة الكفار ، فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة ذلك النبي ، وحينئذ لا يلزم على هذا التقدير عطف الشيء على نفسه . فثبت أن ما ذكرناه أولى .
المسألة الثالثة : زعم أصحابنا أن البنية ليست مشروطا للحياة ، فالحي هو الجزء الذي قامت به الحياة ، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم ، وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء .
إذا عرفت هذا فنقول : احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم؛ لأنه قال تعالى : ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون ) فجعل الموصوف بالميل والرغبة هو القلب ، لا جملة الحي ، وذلك يدل على قولنا .
المسألة الرابعة : الذين قالوا الإنسان شيء مغاير للبدن اختلفوا، منهم من قال : المتعلق الأول هو القلب ، وبواسطته تتعلق النفس بسائر الأعضاء كالدماغ والكبد . ومنهم من قال : القلب متعلق النفس الحيوانية ، والدماغ متعلق النفس الطبيعية ، والأولون تعلقوا بهذه الآية ، فإنه تعالى جعل محل الصغو الذي هو عبارة عن الميل والإرادة القلب ، وذلك يدل على أن المتعلق بالنفس القلب .
المسألة الخامسة : الكناية في قوله : ( ولتصغى إليه أفئدة ) عائدة إلى زخرف القول ، وكذلك في قوله : ( وليرضوه ) .
وأما قوله : ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) فاعلم أن الاقتراف هو الاكتساب ، يقال في المثل : الاعتراف [ ص: 130 ] يزيل الاقتراف ، كما يقال : التوبة تمحو الحوبة . وقال الزجاج : ( ليقترفوا ) أي ليختلفوا وليكذبوا ، والأول أصح .