( لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون )
قوله تعالى : ( لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون )
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيأ لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم ، فقال : ( لهم دار السلام عند ربهم ) وفي هذه الآية تشريفات .
النوع الأول : قوله : ( لهم دار السلام ) وهذا يوجب الحصر ، فمعناه : لهم دار السلام لا لغيرهم ، وفي قوله : ( دار السلام ) قولان :
القول الأول : أن السلام من أسماء الله تعالى ، فدار السلام هي الدار المضافة إلى الله تعالى ، كما قيل للكعبة بيت الله تعالى وللخليفة عبد الله .
والقول الثاني : أن السلام صفة الدار ، ثم فيه وجهان :
الأول : المعنى دار السلامة ، والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها ، يقولون ضلال وضلالة ، وسفاه وسفاهة ، ولذاذ ولذاذة ، ورضاع ورضاعة .
الثاني : أن السلام جمع السلامة ، وإنما سميت الجنة بهذا الاسم لأن أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها .
إذا عرفت هذين القولين : فالقائلون بالقول الأول قالوا به ؛ لأنه أولى ؛ لأن إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية في تشريفها وتعظيمها وإكبار قدرها ، فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين :
الأول : أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى الله تعالى .
والثاني : أن وصف الله تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز ، وإنما وصف بذلك لأنه [ ص: 155 ] تعالى ذو السلام ، فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى .
النوع الثاني : من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله : ( عند ربهم ) وفي تفسيره وجوه :
الوجه الأول : المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة ، ونظيره قوله تعالى : ( جزاؤهم عند ربهم ) وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها ، وكونهم على ثقة من ذلك .
الوجه الثاني : وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله : ( عند ربهم ) يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى ، وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة ، فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة ، وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [ السجدة : 17 ] .
الوجه الثالث : أنه قال في صفة الملائكة : ( ومن عنده لا يستكبرون ) [ الأنبياء : 19 ] وقال في صفة المؤمنين في الدنيا " أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي " وقال أيضا " " وقال في صفتهم يوم القيامة : ( أنا عند ظن عبدي بي في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) [ القمر : 55 ] وقال في دارهم : ( لهم دار السلام عند ربهم ) وقال في ثوابهم : ( جزاؤهم عند ربهم ) [ البينة : 8 ] وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية .
النوع الثالث : من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله : ( وهو وليهم ) والولي معناه القريب ، فقوله : ( عند ربهم ) يدل على قربهم من الله تعالى ، وقوله : ( وهو وليهم ) يدل على قرب الله منهم ، ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة ، وأيضا فقوله : ( وهو وليهم ) يفيد الحصر ، أي لا ولي لهم إلا هو ، وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هو ، وأن النافع والضار ليس إلا هو ، وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو ، وأنه لا مبدئ للكائنات والممكنات إلا هو ، فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه ، فما كان رجوعهم إلا إليه ، وما كان توكلهم إلا عليه ، وما كان أنسهم إلا به ، وما كان خضوعهم إلا له ، فلما صاروا بالكلية ، لا جرم قال تعالى : ( وهو وليهم ) وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا ، ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات .
ثم قال تعالى : ( بما كانوا يعملون ) وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل ، فإن العمل لا بد منه ، وتحقيق القول فيه : أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا ، فكما أن الهيئات النفسانية قد تنزل من النفس إلى البدن ، مثل ما إذا تصور أمرا مغضبا ظهر الأثر عليه في البدن ، فيسخن البدن ويحمى ، فكذلك الهيئات البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس ، فإذا واظب الإنسان على أعمال البر والخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس ، وذلك يدل على أن السالك لا بد له من العمل ، وأنه لا سبيل له إلى تركه البتة .