فإن قال قائل : فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات ، ويلزم عليه أيضا تحليل الخمر ، وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها .
قلنا : هذا لا يلزمنا من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال في هذه الآية : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ومعناه أنه تعالى إنما ، فهذا يقتضي أن حرم لحم الخنزير لكونه نجسا ، فوجب أن يكون كل نجس يحرم أكله ، وإذا كان هذا مذكورا في الآية كان السؤال ساقطا . النجاسة علة لتحريم الأكل
والثاني : أنه تعالى قال في آية أخرى : ( ويحرم عليهم الخبائث ) [ الأعراف : 157 ] وذلك يقتضي تحريم كل الخبائث ، والنجاسات خبائث ، فوجب القول بتحريمها .
الثالث : أن ، فهب أنا التزمنا تخصيص هذه السورة بدلالة النقل المتواتر من دين الأمة مجمعة على حرمة تناول النجاسات محمد في باب النجاسات . فوجب أن يبقى ما سواها على وفق الأصل تمسكا بعموم كتاب الله في الآية المكية والآية المدنية ، فهذا أصل مقرر كامل في باب ما يحل وما يحرم من المطعومات ، وأما الخمر فالجواب عنه : أنها نجسة فيكون من الرجس فيدخل تحت قوله : ( رجس ) وتحت قوله : ( ويحرم عليهم الخبائث ) وأيضا ثبت تخصيصه بالنقل المتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم في تحريمه ، وبقوله تعالى : ( فاجتنبوه ) وبقوله : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) [ البقرة : 219 ] والعام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، فتبقى هذه الآية فيما عداها حجة . وأما قوله ويلزم تحليل الموقوذة والمتردية والنطيحة .
فالجواب عنه من وجوه :
أولها : أنها ميتات . فكانت داخلة تحت هذه الآية .
وثانيها : أنا نخص عموم هذه الآية بتلك الآية .
وثالثها : أن نقول إنها إن كانت ميتة دخلت تحت هذه الآية ، وإن لم تكن ميتة فنخصصها بتلك الآية .
فإن قال قائل : المحرمات من المطعومات أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها ؟
أجابوا عنه من وجوه :
أحدها : أن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما ذكر في هذه الآية .
وثانيها : أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن تحريم غير ما نص [ ص: 181 ] عليه في هذه الآية ثم وجدت محرمات أخرى بعد ذلك .
وثالثها : هب أن اللفظ عام إلا أن جائز فنحن نخصص هذا العموم بأخبار الآحاد . تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد
ورابعها : أن مقتضى هذه الآية أن نقول إنه لا يجد في القرآن ، ويجوز أن يحرم الله تعالى ما سوى هذه الأربعة على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام . ولقائل أن يقول : هذه الأجوبة ضعيفة .
أما الجواب الأول : فضعيف لوجوه :
أحدها : لا يجوز أن يكون المراد من قوله : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته ، ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) لما حسن استثناؤها ، ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة ، علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه .
وثانيها : أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء ، ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة ، وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها ، فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها ، لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل .
وثالثها : أنه تعالى قال في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم ) وذكر هذه الأشياء الأربعة ، وكلمة " إنما " تفيد الحصر ، وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر .
وأما جوابهم الثاني : وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرما إلا هذه الأربعة .
فجوابه من وجوه :
أولها : أن قوله تعالى في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة ، وكلمة " إنما " تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء .
وثانيها : أنه لما ثبت بمقتضى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها ، فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا ، ولا شك أن لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان ، فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال ، ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ ، وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل ؛ علمنا فساد هذا السؤال . مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ؛
وأما جوابهم الثالث : وهو أنا . فنقول : ليس هذا من باب التخصيص ، بل هو صريح النسخ ؛ لأن قوله تعالى : ( نخصص عموم القرآن بخبر الواحد قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ) مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة ، وقوله في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم الميتة ) وكذا وكذا ، تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة ؛ لأن كلمة " إنما " تفيد الحصر ، فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعا لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتا في أول الشريعة بمكة ، وفي آخرها بالمدينة ، لا يجوز . ونسخ القرآن بخبر الواحد
[ ص: 182 ] وأما جوابهم الرابع : فضعيف أيضا ؛ لأن قوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي ) يتناول كل ما كان وحيا ، سواء كان ذلك الوحي قرآنا أو غيره ، وأيضا فقوله في سورة البقرة : ( إنما حرم عليكم الميتة ) يزيل هذا الاحتمال . فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام ، وصحة هذا المذهب ، وهو الذي كان يقول به رحمه الله ، ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرا من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال : " مالك بن أنس ما استخبثه العرب فهو حرام " وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط ، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه ، لما رآهم يأكلون الضب قال : " " ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببا لتحريم الضب . وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئا ، وقد يختلفون في بعض الأشياء ، فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون ، فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط ، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم ؟ يعافه طبعي