[ ص: 161 ]
المسألة الثانية : في تفسير هذه الصفات التسعة .
فالصفة الأولى : قوله :( التائبون ) قال - رضي الله عنه - : التائبون من الشرك . وقال ابن عباس الحسن : التائبون من الشرك والنفاق . وقال الأصوليون : التائبون من كل معصية ، وهذا أولى ؛ لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر ، وقد تكون من المعصية . وقوله :( التائبون ) صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم .
واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة :( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) ( البقرة : 37 ) .
واعلم أن : التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة
أولها : احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه .
وثانيها : ندمه على ما مضى .
وثالثها : عزمه على الترك في المستقبل .
ورابعها : أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته ، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض ، فهو ليس من التائبين .
والصفة الثانية : قوله تعالى :( العابدون ) قال - رضي الله عنهما - : الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم . وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة ، وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم ، ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن يقول إن ولابن عباس ، وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية . قال معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب الحسن :( العابدون ) هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء . وقال قتادة : قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم .
الصفة الثالثة : قوله :( الحامدون ) وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وقد ذكرنا أن ، وهم الملائكة ؛ لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا آدم ونحن نسبح بحمدك ، وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا ; لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى ، وهو( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) ( يونس : 10 ) وهم المرادون بقوله :( والحامدون ) .
الصفة الرابعة : قوله :( السائحون ) وفيه أقوال :
القول الأول : قال عامة المفسرين هم الصائمون . وقال : كل ما ذكر في القرآن من السياحة ، فهو الصيام . وقال النبي - عليه الصلاة والسلام - : " ابن عباس سياحة أمتي الصيام " وعن الحسن : أن هذا صوم الفرض . وقيل هم الذين يديمون الصيام ، وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم ، وجهان :
الأول : قال الأزهري : قيل للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا زاد معه ، كان ممسكا عن الأكل ، والصائم يمسك عن الأكل ، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحا .
الثاني : أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة ، وترك المشتهى ، وهو الأكل والشرب والوقاع ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد [ ص: 162 ] على نفسه أبواب الشهوات ، انفتحت عليه أبواب الحكمة ، وتجلت له أنوار عالم الجلال ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " " فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام ، ومن درجة إلى درجة ، فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات . من أخلص لله أربعين صباحا ، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
والقول الثاني : أن طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم ، وهو قول المراد من السائحين عكرمة ، وعن : كانت السياحة في وهب بن منبه بني إسرائيل ، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله . فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئا ، فقال : يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي ؟ فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين ، وأقول لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس ، فلا بد له من الصبر عليها ، وقد ينقطع زاده ، فيحتاج إلى التوكل على الله ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة ، وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيستحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته ، وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين . للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس
والقول الثالث : قال أبو مسلم :( السائحون ) السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا ، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات . صفات المجاهدين
الصفة الخامسة والسادسة : قوله :( الراكعون الساجدون ) والمراد منه إقامة الصلوات . قال القاضي : وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة ؛ لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة ، وهو قيامه وقعوده . والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ، ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيها على أن نهاية الخضوع والتعظيم . المقصود من الصلاة
الصفة السابعة والثامنة : قوله :( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ; كتاب كبير مذكور في علم الأصول . فلا يمكن إيراده ههنا . وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد ؛ لأن رأس المعروف الإيمان بالله ، ورأس المنكر الكفر بالله .
والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان ، والزجر عن الكفر . والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وأما دخول الواو في قوله :( والناهون عن المنكر ) ففيه وجوه :
الوجه الأول : أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى . قال تعالى :( غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ) ( غافر : 3 ) فجاء بعض بالواو ، وبعض بغير الواو .
الوجه الثاني : أن المقصود من هذه الآيات فالله سبحانه ذكر الصفات التسعة ، ثم قال :( الترغيب في الجهاد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) والتقدير : أن الموصوفين بالصفات الستة ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه هو الجهاد ، فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا .
[ ص: 163 ]
الوجه الثالث : في إدخال الواو على هؤلاء ، وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه ، ولا تعلق لشيء منها بالغير . أما فعبادة متعلقة بالغير ، وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة ، وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله ، فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات ، فأدخل عليها الواو تنبيها على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة . النهي عن المنكر
الصفة التاسعة : قوله :( والحافظون لحدود الله ) والمقصود أن كثيرة وهي محصورة في نوعين : تكاليف الله
أحدهما : ما يتعلق بالعبادات .
والثاني : ما يتعلق بالمعاملات . أما العبادات فهي التي أمر الله بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا ، بل لمصالح مرعية في الدين ; وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر . وأما المعاملات فهي : إما لجلب المنافع وإما لدفع المضار .
والقسم الأول : وهو ما يتعلق بجلب المنافع : فتلك المنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية ; أما المنافع المقصودة بالأصالة ، فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة :
فأولها : المذوقات : ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه . ولما كان الطعام قد يكون نباتا ، وقد يكون حيوانا ، والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح ، والله تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة ، فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح ، وكتاب الضحايا .
وثانيها : الملموسات : ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله ، وهو باب النكاح ، ومنه أيضا باب الرضاع ، ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز ، ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح ، ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان . ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات : البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل ، وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله ; وما لا يحل كاستعماله الأواني الذهبية والفضية ; وطال كلام الفقهاء في هذا الباب .
وثالثها : المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل .
ورابعها : المسموعات : وهو باب هل يحل سماعه أم لا ؟ .
وخامسها : المشمومات ، وليس للفقهاء فيها مجال . وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال ، والبحث عنها من ثلاثة أوجه :
الأول : الأسباب المفيدة للملك وهي إما البيع أو غيره . أما البيع فهو إما بيع الأعيان ، أو بيع المنافع ، وبيع الأعيان فإما أن يكون بيع العين بالعين ، أو بيع الدين بالعين وهو السلم ، أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئا في الذمة ، أو بيع الدين بالدين . وقيل : إنه لا يجوز . لما روي ، ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين . وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة ، وكتاب الجعالة ، وكتاب عقد المضاربة . وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث ، والهبة ، والوصية ، وإحياء الموات ، والالتقاط ، وأخذ الفيء والغنائم ، وأخذ الزكوات وغيرها . ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء . أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ
والنوع الثاني : من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء ، وهو باب الوكالة والوديعة وغيرهما .
والنوع الثالث : الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه ، وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها ، فهذا ضبط أقسام تكاليف الله في باب جلب المنافع . وأما تكاليف الله تعالى في باب دفع المضار [ ص: 164 ] فنقول : أقسام المضار خمسة لأن المضرة إما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول ، أما فهي إما أن تحصل في كل النفس ، والحكم فيه إما القصاص أو الدية أو الكفارة ، وإما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها ، والواجب فيه إما القصاص أو الدية أو الأرش ، وأما المضار الحاصلة في الأموال ، فذلك الضرر إما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار ، وهو كتاب الغصب ، أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة ، وأما المضار الحاصلة في الأديان ، فهي إما الكفر وإما البدعة ، أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين ، وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين ، وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما ، ويدخل فيه أيضا باب حد القذف وباب اللعان ، وههنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه ؛ لأنه ربما كان ضعيفا فلا يلتفت إليه خصمه ، فلهذا السر نصب الله تعالى الإمام لتنفيذ الأحكام ، ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير على الغير مقبولا إلا بالحجة ، فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة ، ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها ، فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ، ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل ، وتارة بأن أمر الرسول - عليه السلام - حتى يبينها للمكلفين ، لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية ، فقال :( المضار الحاصلة في النفوس والحافظون لحدود الله ) وهو يتناول جملة هذه التكاليف .
واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك ، فإن : أعمال الجوارح وأعمال القلوب ، وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح ، فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها البتة ولم يصنفوا لها كتبا وأبوابا وفصولا . ولم يبحثوا عن دقائقها ، ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى ; لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه :( أعمال المكلفين قسمان والحافظون لحدود الله ) متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة .
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال :( وبشر المؤمنين ) والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة :( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ) [ التوبة : 111 ] فذكر هذه الصفات التسعة ، ثم ذكر عقيبها قوله :( وبشر المؤمنين ) بهذه الصفات .
فإن قيل : ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ، ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة ؟
قلنا : لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله ، والسياحة لطلب العلم ، والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته ، فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل ، وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء ، ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضا فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح ، إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب ، وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا [ ص: 165 ] القسم على سبيل التفصيل ، وذكر هذا القسم على سبيل الإجمال .