( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين )
قوله تعالى : ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين )
اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات ، يقال : تبوأ المكان ، أي اتخذه مبوأ ، كقوله توطنه إذا اتخذه موطنا ، والمعنى : اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة والصلاة .
ثم قال : ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) وفيه أبحاث :
البحث الأول : من الناس من قال : المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) [ النور : 36 ] ومنهم من قال : المراد مطلق البيوت ، أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة ، ثم قالوا : والمراد من قوله : ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة ، وقال الفراء : واجعلوا بيوتكم قبلة ، أي إلى القبلة ، وقال : واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلا يعني مساجد ، فأطلق لفظ الوحدان ، والمراد الجمع ، واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت ؟ فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه ، إلا أنه نقل عن ابن الأنباري أنه قال : كانت ابن عباس الكعبة قبلة موسى - عليه السلام - . وكان الحسن يقول : الكعبة قبلة كل الأنبياء ، وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول - عليه السلام - بعد الهجرة .
وقال آخرون : كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس .
وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت ، فهؤلاء لهم في تفسير قوله : ( قبلة ) وجهان :
الأول : المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة ، والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبعض .
وقال آخرون : المراد واجعلوا دوركم قبلة ، أي صلوا في بيوتكم .
[ ص: 119 ] البحث الثاني : أنه تعالى خص موسى وهارون في أول هذه الآية بالخطاب فقال : ( أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا ) ثم عمم هذا الخطاب فقال : ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) والسبب فيه موسى وهارون أن يتبوءا لقومهما بيوتا للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء ، ثم جاء الخطاب بعد ذلك عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ؛ لأن ذلك واجب على الكل ، ثم خص أنه تعالى أمر موسى - عليه السلام - في آخر الكلام بالخطاب فقال : ( وبشر المؤمنين ) وذلك لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة ، فخص الله تعالى موسى بها ، ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى - عليه السلام - وأن هارون تبع له .
البحث الثالث : ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوها ثلاثة :
الأول : أن موسى - عليه السلام - ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة ; لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة .
الثاني : قيل : إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة ، فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون .
الثالث : أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفل تعالى أنه يصونهم عن شر الأعداء .