واعلم أننا بينا في " الكتب العقلية " أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان وإما الحدوث وإما مجموعهما ، وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض . فيكون مجموع ستة لا مزيد عليها : الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى
أحدها : الاستدلال بإمكان الذوات ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( والله الغني وأنتم الفقراء ) [ محمد : 38 ] ، وبقوله حكاية عن إبراهيم : ( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [ الشعراء : 77 ] ، وبقوله : ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] ، وقوله : ( قل الله ثم ذرهم ) [ الأنعام : 91 ] ، ( ففروا إلى الله ) [ الذاريات : 50 ] ، ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] .
وثانيها : الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله : ( خلق السماوات والأرض ) وبقوله : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) على ما سيأتي تقريره .
وثالثها : الاستدلال بحدوث الأجسام ، وإليه الإشارة بقول إبراهيم - عليه السلام - : ( لا أحب الآفلين ) [ الأنعام : 76 ] .
ورابعها : الاستدلال بحدوث الأعراض ، وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق ، وذلك محصور في أمرين [ ص: 90 ] دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ، والكتب الإلهية في الأكثر مشتملة على هذين البابين ، والله تعالى جمع ههنا بين هذين الوجهين .
أما دلائل الأنفس ، فهي أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه ما كان موجودا قبل ذلك وأنه صار الآن موجودا وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بد له من موجد ، وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس ؛ لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة ، فلا بد من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص ، إلا أن لقائل أن يقول ههنا : لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم ؟ ولما كان هذا السؤال محتملا ذكر الله تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) وهو المراد من دلائل الآفاق ، ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول ، وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية ، فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها . وإلا وجب اشتراك الكل في تلك الصفات ، فلا بد وأن يكون لأمر منفصل ، وذلك الأمر إن كان جسما عاد البحث في أنه لم اختص بتلك المؤثرية من بين تلك الأجسام ، وإن لم يكن جسما فإما أن يكون موجبا أو مختارا . والأول باطل ، وإلا لم يكن اختصاص بعض الأجسام ببعض الصفات أولى من العكس فلا بد وأن يكون قادرا ، فثبت بهذه الدلالة افتقار جميع الأجسام إلى مؤثر قادر ليس بجسم ولا بجسماني ، وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض على وجود الصانع لا يكفي إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات .
وإذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى إنما خص هذا النوع من الأدلة بالإيراد في أول كتابه لوجهين :
الأول : أن هذا الطريق لما كان أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وأشدها التصاقا بالعقول ، وكانت الأدلة المذكورة في القرآن يجب أن تكون أبعدها عن الدقة وأقربها إلى الأفهام لينتفع به كل أحد من الخواص والعوام ، لا جرم ذكر الله تعالى في أول كتابه ذلك .
الثاني : أنه ليس الغرض من الدلائل القرآنية المجادلة ، بل الغرض منها تحصيل العقائد الحقة في القلوب ، وهذا النوع من الدلائل أقوى من سائر الطرق في هذا الباب ؛ لأن هذا النوع من الدلائل كما يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر بنعم الخالق علينا ، فإن الوجود والحياة من النعم العظيمة علينا ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة وترك المنازعة وحصول الانقياد ، فلهذا السبب كان ذكر هذا النوع من الأدلة أولى من سائر الأنواع .
واعلم أن للسلف طرقا لطيفة في هذا الباب :
أحدها : يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند - رضي الله عنه - فقال جعفر الصادق جعفر : هل ركبت البحر ؟ قال : نعم . قال : هل رأيت أهواله ؟ قال : بلى ؛ هاجت يوما رياح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين ، فتعلقت أنا ببعض ألواحها ثم ذهب عني ذلك اللوح فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل ، فقال جعفر : قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى تنجيك ، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد ؟ قال : بل رجوت السلامة ، قال : ممن كنت ترجوها ؟ فسكت الرجل ، فقال جعفر : إن الصانع هو الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت ، وهو [ ص: 91 ] الذي أنجاك من الغرق ، فأسلم الرجل على يده .
وثانيها : جاء في كتاب " ديانات العرب " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لعمران بن حصين كم لك من إله ؟ " قال : عشرة ، قال : فمن لغمك وكربك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم ؟ قال : الله ، قال - عليه السلام - : " ما لك من إله إلا الله " .
وثالثها : كان - رحمه الله - سيفا على أبو حنيفة الدهرية ، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه ، فبينما هو يوما في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله فقال لهم : أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم ، فقالوا له : هات ، فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم : إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز ذلك في العقل ؟ قالوا : لا ، هذا شيء لا يقبله العقل ؟ فقال : يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر ، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ؟ فبكوا جميعا وقالوا : صدقت ، وأغمدوا سيوفهم وتابوا . أبو حنيفة
ورابعها : سألوا - رضي الله عنه - ما الدليل على وجود الصانع ؟ فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم ؟ قالوا : نعم ، قال : فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم ، والنحل فيخرج منها العسل ، والشاة فيخرج منها البعر ، ويأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد ؟ فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وكان عددهم سبعة عشر . الشافعي
وخامسها : سئل - رضي الله عنه - مرة أخرى فتمسك بأن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى وبالعكس ، فدل على الصانع . أبو حنيفة
وسادسها : تمسك أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ، ظاهرها كالفضة المذابة وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير ، فلا بد من الفاعل ، عنى بالقلعة البيضة وبالحيوان الفرخ .
وسابعها : سأل هارون الرشيد مالكا عن ذلك فاستدل باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات .
وثامنها : سئل عنه ، فقال : أبو نواس
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات
وأزهار كما الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
وتاسعها : سئل أعرابي عن الدليل فقال : البعرة تدل على البعير . والروث على الحمير ، وآثار الأقدام على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ، أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير ؟
[ ص: 92 ] وعاشرها : قيل لطبيب : بم عرفت ربك ؟ قال : بإهليلج مجفف أطلق ، ولعاب ملين أمسك . وقال آخر : عرفته بنحلة ، بأحد طرفيها تعسل والآخر تلسع ، والعسل مقلوب اللسع .
وحادي عشرها : حكم البديهة في قوله : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ الزخرف : 87 ] ، ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ) [ غافر : 84 ] .