( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم )
قوله تعالى : ( وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك )
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي ، فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة ، ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض ، فقوله : ( اهبط ) يحتمل أن يكون أمرا بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل ، وأن يكون أمرا بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية .
المسألة الثانية : أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولا ، ثم بالبركة ثانيا ، أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين :
الأول : أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحا - عليه السلام - تاب عن زلته ، وتضرع إلى الله تعالى بقوله : ( وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم - عليه السلام - عند توبته من زلته وهو قوله : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [الأعراف : 23 ] فكان نوح - عليه السلام - محتاجا إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد ، فلما قيل له : ( يانوح اهبط بسلام منا ) حصل له الأمن من جميع المكاره المتعلقة بالدين .
والثاني : أن ذلك الغرق لما كان عاما في جميع الأرض فعندما خرج نوح - عليه السلام - من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان كالخائف في أنه كيف يعيش ؟ وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب ؟ فلما قال الله تعالى : ( اهبط بسلام منا ) زال عنه ذلك الخوف ؛ لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ، ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق ، ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة ، وهي عبارة عن الدوام والبقاء ، والثبات ، ونيل الأمل ، ومنه بروك الإبل ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها ، ومنه تبارك وتعالى ، أي : ثبت تعظيمه ، ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء .
فالقول الأول : نوحا أبا البشر ؛ لأن جميع من بقي كانوا من نسله ، وعند هذا قال هذا القائل : إنه لما خرج أنه تعالى صير نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ، ولم يحصل النسل إلا من [ ص: 7 ] ذريته ، فالخلق كلهم من نسله وذريته ، وقال آخرون : لم يكن في سفينة نوح - عليه السلام - إلا من كان من نسله وذريته ، وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده ، والدليل عليه قوله تعالى : ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) [الصافات : 77 ] فثبت أن نوحا - عليه السلام - كان آدم الأصغر ، فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها .
والقول الثاني : أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات ، وعده بأن موجبات السلامة والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار ، ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه ، فقال : ( وعلى أمم ممن معك ) واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال : منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أمما وجماعات ؛ لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم ، فلهذا السبب جعلهم أمما ، ومنهم من قال : بل المراد ممن معك نسلا وتولدا ، قالوا : ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى : ( وما آمن معه إلا قليل ) [ هود : 40 ] ومنهم من قال : المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك ، والمختار هو القول الثاني : "ومن" في قوله : ( ممن معك ) لابتداء الغاية ، والمعنى : وعلى أمم ناشئة من الذين معك .
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين :
أحدهما : الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم ، وهم أهل الإيمان .
والثاني : أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ، ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم ، فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح - عليه السلام - لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر . قال المفسرون : دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، ثم قال أهل التحقيق : إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه ؛ لأنه قال : ( بسلام منا ) وهذا يدل على أن ، وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق ، وطلبهم للحق ، وتوجههم إلى الحق ، وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى ، فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير ، والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير ، والأول : نصيب عامة الخلق ، والثاني : نصيب المقربين ؛ ولهذا السبب قال بعضهم : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ، ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول ، وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم : ( الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ، ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيبا من متاع الدنيا ، فدل ذلك على خساسة الدنيا ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر ألبتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا ، ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا ، وهذا تنبيه عظيم على والترغيب في المقامات الروحانية . خساسة السعادات الجسمانية