المسألة الثامنة : في أن الولي هل يعرف كونه وليا ؟ قال الأستاذ : لا يجوز ، وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك أبو علي الدقاق ، وتلميذه أبو القاسم القشيري : يجوز ، وحجة المانعين وجوه :
الحجة الأولى : لو لحصل له الأمن ، بدليل قوله تعالى : ( عرف الرجل كونه وليا ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( يونس : 62 ) لكن حصول الأمن غير جائز ويدل عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى : ( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) ( الأعراف : 99 ) واليأس أيضا غير جائز لقوله تعالى : ( إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ( يوسف : 87 ) ولقوله تعالى : ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) ( الحجر : 56 ) والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز ، واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل ، واعتقاد العجز والبخل في حق الله كفر ، فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفرا .
الثاني : أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ، ومع كون القهر غالبا لا يحصل الأمن .
الثالث : أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة ، والأمن يقتضي ترك الخوف .
الرابع : أنه تعالى وصف المخلصين بقوله : ( ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) قيل : رغبا في ثوابنا ورهبا من عقابنا ، وقيل : رغبا في فضلنا ، ورهبا من عدلنا ، وقيل : رغبا في وصالنا ، ورهبا من فراقنا . والأحسن أن يقال : رغبا فينا ، ورهبا منا .
الحجة الثانية : -على أن الولي لا يعرف كونه وليا- أن الولي إنما يصير وليا لأجل أن الحق يحبه ، لا لأجل أنه يحب الحق ، وكذلك القول في العدو ، ثم إن محبة الحق وعداوته سران لا يطلع عليهما أحد ، فطاعات العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته ؛ لأن الطاعات والمعاصي محدثة ، وصفات الحق قديمة غير متناهية ، والمحدث المتناهي لا يصير غالبا للقديم غير المتناهي ، وعلى هذا التقدير فربما كان العبد في الحال في عين المعصية إلا أن نصيبه من الأزل عين المحبة ، وربما كان العبد في الحال في عين الطاعة ، ولكن نصيبه من الأزل عين العداوة ، وتمام التحقيق : أن محبته وعداوته صفة ، وصفة الحق غير معللة ، ومن كانت محبته لا لعلة ، فإنه يمتنع أن يصير عدوا بعلة المعصية ، ومن كانت عدواته لا لعلة يمتنع أن يصير محبا لعلة الطاعة ، ولما كانت محبة الحق وعداوته سرين لا يطلع عليهما ، لا جرم قال عيسى عليه السلام : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ) ( المائدة : 116 )
الحجة الثالثة : -على أن الولي لا يعرف كونه وليا- أن الحكم بكونه وليا وبكونه من أهل الثواب والجنة يتوقف على الخاتمة ، والدليل عليه قوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ( الأنعام : 160 ) ولم يقل من عمل حسنة فله عشر أمثالها ، وهذا يدل على أن استحقاق الثواب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل ، والذي يؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد ، وهذا دليل على أن العبرة بالخاتمة لا بأول العمل ، ولهذا قال تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) ( الأنفال : 38 ) فثبت أن العبرة في الولاية والعداوة وكونه من أهل الثواب أو من أهل العقاب بالخاتمة ، فظهر أن الخاتمة غير معلومة لأحد ، فوجب القطع بأن الولي لا يعلم كونه وليا ، أما الذين قالوا إن الولي قد يعرف كونه وليا ، فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الولاية لها ركنان :
أحدهما : كونه في الظاهر منقادا للشريعة .
الثاني : كونه في الباطن مستغرقا في نور الحقيقة ، فإذا حصل الأمران وعرف الإنسان حصولهما [ ص: 83 ] عرف لا محالة كونه وليا ، أما الانقياد في الظاهر للشريعة فظاهر ، وأما استغراق الباطن في نور الحقيقة فهو أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله ، وأن لا يكون له استقرار مع شيء سوى الله .
والجواب : أن تداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة غامضة والقضاء عسر ، والتجربة خطر ، والجزم غرور ، ودون الوصول إلى عالم الربوبية أستار ، تارة من النيران ، وأخرى من الأنوار ، والله العالم بحقائق الأسرار ، ولنرجع إلى التفسير .