( قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا )
قوله تعالى : ( قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا )
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لما علم جبريل خوفها قال : ( إنما أنا رسول ربك ) ليزول عنها ذلك الخوف ، ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لا بد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس ، فههنا يحتمل أن يكون قد ظهر معجز عرفت به جبريل عليه السلام ويحتمل أنها من جهة زكريا عليه السلام عرفت صفة الملائكة فلما قال لها : ( إنما أنا رسول ربك ) أظهر لها من باطن جسده ما عرفت أنه ملك فيكون ذلك هو العلم ، وسأل القاضي عبد الجبار في تفسيره نفسه فقال : إذا لم تكن نبية عندكم وكان من قولكم أن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه إلا رجالا فكيف يصح ذلك ؟ وأجاب أن ذلك إنما وقع في زمان زكريا عليه السلام وكان رسولا ، وكل ذلك كان عالما به ، وهذا ضعيف لأن المعجز إذا كان مفعولا للنبي فأقل ما فيه أن يكون عليه السلام عالما به وزكريا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعله معجزا له ؟ بل الحق أن ذلك إما أن يكون كرامة لمريم أو إرهاصا لعيسى عليه السلام .
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر ونافع ليهب بياء مفتوحة بعد اللام أي : ليهب الله لك والباقون بهمزة مفتوحة بعدها أما قوله لأهب لك ففي مجازه وجهان :
الأول : أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي نفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها ، وإضافة الفعل إلى ما هو سبب له مستعمل قال تعالى في الأصنام : ( إنهن أضللن كثيرا من الناس ) [إبراهيم : 36] .
الثاني : أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت تلك البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة فإن قال قائل ما الدليل على أن جبريل عليه السلام لا يقدر على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والعقل والنطق فيها ؟ والذي يقال فيه : إن جبريل عليه السلام جسم والجسم لا يقدر على هذه الأشياء أما أنه جسم فلأنه محدث وكل محدث إما متحيز أو قائم بالمتحيز وأما أن الجسم لا يقدر على هذه الأشياء فلأنه لو قدر جسم على ذلك لقدر عليه كل جسم لأن الأجسام متماثلة ، وهو ضعيف ؛ لأن للخصم أن يقول : لا نسلم أن كل محدث إما متحيز أو قائم به ، بل ههنا موجودات قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ولا يلزم من كونها كذلك كونها أمثالا لذات الله تعالى ؛ لأن الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي التماثل فكيف في الصفات السلبية ، سلمنا كونه جسما فلم قلت : الجسم لا يقدر عليه ، قوله الأجسام متماثلة : قلنا نعني به أنها متماثلة في كونها حاصلة في الأحياز ذاهبة في الجهات أو نعني به أنها متماثلة في تمام ماهياتها .
والأول مسلم ، لكن حصولها في الأحياز صفات لتلك الذوات ، والاشتراك في الصفات لا يوجب الاشتراك في ماهيات المواصفات ، سلمنا أن الأجسام متماثلة فلم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى خص بعضها بهذه القدرة دون البعض حتى إنه يصح منها ذلك ولا يصح من البشر ذلك ؟
والجواب [ ص: 170 ] الحق أن المعتمد في دفع هذا الاحتمال إجماع الأمة فقط والله أعلم .
المسألة الثالثة : الزكي يفيد أمورا ثلاثة :
الأول : أنه الطاهر من الذنوب .
والثاني : أنه ينمو على التزكية ؛ لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي ، وفي الزرع النامي زكي .
والثالث : النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبيا ، وقال بعض المتكلمين الأولى أن يحمل على الكل وهو ضعيف لما عرفت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على المعنيين سواء كان حقيقة فيهما أو في أحدهما مجازا وفي الآخر حقيقة .
المسألة الرابعة : سماه زكيا مع أنه لم يكن له شيء من الدنيا وأنت إذا نظرت في سوقك فمن لم يملك شيئا فهو شقي عندك . وإنما الزكي من يملك المال والله يقول كان زكيا ؛ لأن سيرته الفقر وغناه الحكمة والكتاب ، وأنت فإنما تسمي بالزكي من كانت سيرته الجهل وطريقته المال .