( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )
قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )
اعلم أنه تعالى لما رد على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) ، وللمفسرين في قوله : ( ودا ) قولان :
القول الأول : وهو قول الجمهور أنه تعالى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ، ولا تعرض للأسباب التي يكتسب الناس بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع منه تعالى ، وابتداء تخصيصا لأوليائه بهذه الكرامة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم ، والسين في سيجعل إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة ، فوعدهم الله تعالى ذلك إذا جاء الإسلام ، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : " جبريل : قد أحببت فلانا فأحبوه ؛ فينادي جبريل عليه السلام بذلك في السماء والأرض ، وإذا أبغض عبدا فمثل ذلك " . إذا أحب الله عبدا نادى
وعن كعب قال : مكتوب في التوراة والإنجيل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ، وتصديق ذلك في القرآن قوله : ( لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا ) .
القول الثاني - وهو اختيار أبي مسلم : معنى ( سيجعل لهم الرحمن ودا ) أي : يهب لهم ما يحبون والود والمحبة سواء ، يقال : آتيت فلانا محبته ، وجعل لهم ما يحبون ، وجعلت له وده ، ومن كلامهم : يود لو كان كذا ، ووددت أن لو كان كذا ، أي أحببت ، ومعناه : سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة .
والقول الأول أولى ؛ لأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ، ولأنا ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وفسرها بذلك ، فكان ذلك أولى ، وقال أبو مسلم : بل القول الثاني أولى ؛ لوجوه :
[ ص: 219 ] أحدها : كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار ، وقد يبغضه كثير من المسلمين .
وثانيها : أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين ؟
وثالثها : أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم ، لا أن الله تعالى فعله ، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى .
والجواب عن الأول أن المراد : يجعل لهم الرحمن محبة عند الملائكة والأنبياء . وروي عنه عليه السلام أنه حكى عن ربه عز وجل أنه قال : " " . وهذا هو الجواب عن الكلام الثاني ؛ لأن الكافر والفاسق ليس كذلك . إذا ذكرني عبدي المؤمن في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أطيب منهم وأفضل
والجواب عن الثالث أنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم . أما قوله تعالى : ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين ) فهو كلام مستأنف بين به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين ، فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر ، ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأما فبين ، لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ ، وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى لدا . أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم
ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن ) لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة ، فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب ، ثم أكد تعالى في ذلك فقال : ( هل تحس منهم من أحد ) لأن الرسول عليه السلام إذا لم يحس منهم أحدا برؤية أو إدراك أو وجدان ، ولا يسمع لهم ركزا- وهو الصوت الخفي ، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون - دل ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية .
والأقرب في قوله : ( أهلكنا ) أن المراد به الانقراض بالموت وإن كان من المفسرين من حمله على العذاب المعجل في الدنيا . والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، وعلى آله وصحبه وسلم .