( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون )
قوله تعالى : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون )
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، والمروي عن قبائح أفعال رضي الله عنه ما أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق وأن قوله حق ونجده بنعته وصفته في كتابنا ، ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء لهم : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به ، فإن المخالف إذا اعترف بصحة التوراة واعترف بشهادة التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا حجة أقوى من ذلك ، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضا من الاعتراف بذلك عند محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال القفال : قوله : ( فتح الله عليكم ) مأخوذ من قولهم قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه .
أما قوله : ( عند ربكم ) ففيه وجوه :
أحدها : أنهم جعلوا محاجتهم به وقوله هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ، ألا تراك تقول هو في كتاب الله هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد .
وثانيها : قال الحسن : أي ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم الله تعالى من اتباع الرسل تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه .
وثالثها : قال الأصم : المراد يحاجوكم يوم القيامة وعند التساؤل فيكون ذلك زائدا في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رءوس الخلائق في الموقف لأنه ليس من اعتراف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك مما يزيد في انكشاف فضيحتهم في الآخرة .
ورابعها : قال [ ص: 126 ] القاضي أبو بكر : إن المحتج بالشيء قد يحتج ويكون غرضه من إظهار تلك الحجة حصول السرور بسبب غلبة الخصم وقد يكون غرضه منه الديانة والنصيحة فقط ليقطع عذر خصمه ويقرر حجة الله عليه ، فقال القوم عند الخلوة قد حدثتموهم بما فتح الله عليكم من حجتهم في التوراة فصاروا يتمكنون من الاحتجاج به على وجه الديانة والنصيحة ؛ لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه قد أوجبت عليك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي فإن قبلت أحسنت إلى نفسك وإن جحدت كنت الخاسر الخائب .
وخامسها : قال القفال : يقال : فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي ، وهذا عند حلال وعند الشافعي حرام ، أي في حكمهما ، وقوله : ( أبي حنيفة ليحاجوكم به عند ربكم ) أي لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله . وتأول بعض العلماء قوله تعالى : ( فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) [النور : 13] أي في حكم الله وقضائه لأن وإن كان في نفسه صادقا . القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين
أما قوله : ( أفلا تعقلون ) ففيه وجوه :
أحدها : أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال : أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم ، وهو قول الحسن .
وثانيها : أنه راجع إليهم فكأن عندما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به ، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه . وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم .
أما قوله تعالى : ( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ففيه قولان :
الأول وهو قول الأكثرين : أن اليهود كانوا يعرفون الله ويعرفون فخوفهم الله به . أنه تعالى يعلم السر والعلانية
الثاني : أنهم ما علموا بذلك فرغبهم بهذا القول في أن يتفكروا فيعرفوا أن لهم ربا يعلم سرهم وعلانيتهم وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم ، وعلى القولين جميعا ، فهذا الكلام زجر لهم عن النفاق ، وعن وصية بعضهم بعضا بكتمان دلائل نبوة محمد . والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك ؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر : أولا يعلم كيت وكيت ، إلا وهو عالم بذلك الشيء ، ويكون ذلك الشيء زاجرا له عن ذلك الفعل ، وقال بعضهم : هؤلاء اليهود كيف يستجيزون أن يسر إلى إخوانهم النهي عن إظهار دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم ليسوا كالمنافقين الذين لا يعلمون الله ولا يعلمون كونه عالما بالسر والعلانية ، فشأنهم من هذه الجهة أعجب .
قال القاضي : الآية تدل على أمور :
أحدها : أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال .
وثانيها : أنها تدل على صحة الحجاج والنظر وأن ذلك كان طريقة الصحابة والمؤمنين وأن ذلك كان ظاهرا عند اليهود حتى قال بعضهم لبعض ما قالوه .
وثالثها : أنها تدل على أن الحجة قد تكون إلزامية لأنهم لما اعترفوا بصحة التوراة وباشتمالها على ما يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم لزمهم الاعتراف بالنبوة ولو منعوا إحدى تينك المقدمتين لما تمت الدلالة .
ورابعها : أنها تدل على أن يكون أعظم جرما ووزرا والله أعلم . الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية